Abstract:
لقد شكّل موضوع الإيجاب والقبول في العقد الإلكتروني مجالًا خصبًا للبحث القانوني، نظراً لما يطرحه من إشكالات مستحدثة تمس جوهر نظرية العقد. فمع الانتشار الواسع للتكنولوجيا وتزايد الاعتماد على الوسائط الإلكترونية في الحياة اليومية، أصبح من الضروري إعادة النظر في آليات تكوين العقد بما يتناسب مع طبيعة البيئة الرقمية، دون الإخلال بالمبادئ العامة التي تحكم التعاقد التقليدي، وعلى رأسها مبدأ سلطان الإرادة، ومبدأ الرضائية.
وقد حاولت هذه المذكرة تسليط الضوء على كيفية تحقق الإيجاب والقبول عبر الوسائل الإلكترونية، من خلال تحليل المراحل المختلفة لانعقاد العقد، ومقارنة الوضع التقليدي بما هو معمول به في السياق الإلكتروني. كما تم الوقوف على النقاط الخلافية التي يثيرها هذا الموضوع، خاصة تلك المتعلقة بتحديد لحظة التقاء الإرادتين، ومكان انعقاد العقد، والوسائل التقنية المعتمدة في التعبير عن الإرادة، مثل البريد الإلكتروني، ونماذج الطلب عبر المواقع الإلكترونية، والتطبيقات الرقمية.
ومن خلال هذه الدراسة، تبيّن أن نظرية العقد في صورتها الكلاسيكية ما تزال قادرة على استيعاب العقود الإلكترونية، ولكن ضمن شروط ومقتضيات جديدة تفرضها الوسائط التكنولوجية. فالإيجاب والقبول لا يفقدان مضمونهما القانوني لمجرد أنهما يتمان عبر وسيلة غير مادية، بل إن العبرة تبقى قائمة بتحقق التعبير الصريح والواضح عن الإرادة، واستيفاء الأركان والشروط الأساسية لانعقاد العقد.
غير أن هذا لا ينفي وجود فراغات تشريعية أو غموض في بعض النصوص، لا سيما في التشريعات العربية، ومنها التشريع الجزائري، حيث ما زال تنظيم العقود الإلكترونية في حاجة إلى مزيد من الدقة والملاءمة مع المعايير التقنية العالمية، بما يكفل الأمان القانوني ويُطمئن المتعاملين في البيئة الرقمية. ولهذا فإن تعزيز القواعد القانونية المتعلقة بالإثبات، والتوقيع الإلكتروني، وحماية المستهلك الإلكتروني، يظل مطلباً ملحاً في سبيل ترسيخ ثقة الأطراف في هذا النوع من التعاقد.
وفي الأخير، يمكن القول إن العقد الإلكتروني لا يخرج عن القواعد العامة، لكنه يتطلب قراءة معاصرة للنصوص القانونية، تراعي طبيعة العصر الرقمي، وتحافظ في ذات الوقت على مقومات العدالة والشرعية. ومن هذا المنطلق، فإن العمل المستقبلي يجب أن يتجه نحو دعم البحوث القانونية فى هذا المجال، وتشجيع التنسيق التشريعي بين الدول، لضمان توافق القواعد القانونية مع التطورات المستمرة التي يشهدها العالم الرقمي.