الخلاصة:
وأخيرا وبعد دراسة أزمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية من خلال مذكرات الشهود، يمكن القول إن هذه الحركة، رغم دورها البارز في مسار الحركة الوطنية الجزائرية، قد عرفت في سنواتها الأخيرة أزمة بنيوية حادة ساهمت بشكل كبير في إعادة تشكيل النضال الوطني وتوجيهه نحو الكفاح المسلح. ومن خلال تتبع مراحل نشأة الحركة، ونظامها الداخلي، ثم نشاطها على المستويين الداخلي والخارجي، يتبيّن أن هذه الحركة كانت تمثّل امتدادًا لتجارب سياسية سابقة، وبداية لتوجه جديد نحو الاستقلال التام، غير أن غياب الانسجام الداخلي وظهور تيارات متباينة في الرؤية والتكتيك عجّل بانفجار الأزمة في صفوفها.
وقد بيّنت المذكرة أن جذور الأزمة بدأت في الظهور مبكرًا، كما أشار إلى ذلك يوسف بن خدة في كتابه "جذور أول نوفمبر"، حيث أرجع الانقسامات الأولى إلى غياب الديمقراطية الداخلية، وهيمنة النزعة الفردية في اتخاذ القرار. كما أظهرت الدراسة أن المؤتمرات التي انعقدت في تلك الفترة، عوض أن تكون فرصة لتوحيد الصفوف، زادت من حدة التوتر، خاصة مع بروز التيارات الثلاثة (المركزيون، المصاليون، أنصار العمل المسلح). وهو ما أدى لاحقًا إلى تبلور اتجاه جديد رافض للتجاذبات العقيمة، ومؤمن بضرورة الانتقال إلى مرحلة الثورة الشاملة.
ومن خلال شهادات بعض الفاعلين السياسيين الذين عاشوا الأزمة من داخل الحركة – على غرار عبد الرحمن بن العقون، وأحمد مهساس، ومحمد بوضياف – تتجلى بوضوح تلك الصورة المتشظية للحركة. إذ تتقاطع شهاداتهم في تحميل القيادة، وبالأخص مصالي الحاج، مسؤولية الانغلاق السياسي ورفضه لكل محاولة إصلاح داخلي، رغم اختلاف درجات النقد وحدّته. كما تظهر هذه الشهادات أن محاولات الوساطة التي قامت بها بعض الشخصيات الوطنية لم تكن كافية لرأب الصدع، نتيجة لتصلب المواقف وغياب ثقافة الحوار داخل الحزب.
لقد كشفت هذه المذكرة، من خلال المقاربة التاريخية التحليلية لشهادات الشهود، أن أزمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية لم تكن أزمة تنظيم فحسب، بل أزمة تصورات واستراتيجيات، عكست التحولات الفكرية والسياسية التي كانت تشهدها الساحة الوطنية عشية اندلاع الثورة. ويمكن الجزم أن هذه الأزمة، رغم سلبياتها، ساهمت في فرز حقيقي داخل الحركة الوطنية، انتهى بانبثاق جيل جديد من المناضلين الذين آمنوا بضرورة التغيير الجذري عبر العمل الثوري، وهو ما تحقق فعلاً في الفاتح من نوفمبر 1954.
وهكذا، فإن تناول الأزمة من خلال مذكرات الشهود مكّن من فهم أعمق لطبيعة الصراع داخل الحركة، وأبرز في الوقت نفسه أهمية الذاكرة الشفوية والمكتوبة في إعادة بناء تاريخنا الوطني المعاصر.