Abstract:
بعد رحلة معمقة في دهاليز العلاقة الشائكة بين المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن، يتضح جليًا أن هذه العلاقة، وإن بدت للوهلة الأولى ضرورية لتحقيق التوازن بين السلم والعدالة، إلا أنها تُشكل في جوهرها نقطة توتر وجودية تُهدد مبادئ المحكمة الأساسية. لقد كشف تحليلنا الشامل لآليتي الإحالة (المادة 13) والإرجاء (المادة 16) عن تناقضات عميقة: فبينما تُقدم المادة 13 جسرًا لتوسيع نطاق العدالة وتجاوز حدود السيادة، تُعد المادة 16 "سيفًا مسلطًا" على استقلالية المحكمة، قادرة على شلّ عمل المدعي العام وتقويض مبدأ التكامل، بل وحتى إرساء إعفاءات استباقية من المساءلة الجزائية لأسباب سياسية بحتة.
إن هذا البحث لم يكتفِ بتشخيص العلل، بل سعى لرسم خارطة طريق نحو إصلاح شامل؛ فمواجهة تعسف مجلس الأمن تجاه المحكمة لن يتم إلا من خلال تعديل جوهري للمادة 16، يضع قيودًا واضحة على سلطة الإرجاء ويُزيل عنها غطاء التسييس. والأهم من ذلك، يفرض هذا الواقع ضرورة إصلاح تشكيلة مجلس الأمن وآلية عمله برمتها، بما في ذلك تقييد حق النقض (الفيتو) الذي يُعدّ الأداة الفعالة لعرقلة العدالة في يد القوى الكبرى. إن تحقيق هذا التوازن المنشود بين متطلبات السلم والعدالة ليس مجرد رفاهية، بل هو ضرورة حتمية لضمان مصداقية المنظومة القانونية الدولية برمتها. ففي عالم يتطلع إلى سيادة القانون، لا يمكن للعدالة أن تكون انتقائية، ولا يمكن للأمن أن يُبنى على أنقاض الإفلات من العقاب. فهل ستستجيب الأوساط الدولية لنداءات الإصلاح هذه، لتُصبح المحكمة الجنائية الدولية حقًا حصنًا منيعًا للعدالة لا يتأثر بتقلبات المصالح السياسية؟ هذا ما ستكشفه الأيام، ولكن الأمل يظل معقودًا على أن تتغلب إرادة العدالة على قاطرة السياسة.
أولًا: النتائج
من خلال دراسة العلاقة بين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، وتحديدًا سلطتي الإحالة والإرجاء، أمكن استخلاص النتائج التالية:
-هيمنة الطابع السياسي على قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالمحكمة الجنائية الدولية، ما انعكس سلبًا على استقلالية المحكمة، وجعلها في بعض الحالات خاضعة لحسابات سياسية تتعارض مع مبادئ العدالة الدولية.
-الإفراط في استعمال المادة 16 من نظام روما الأساسي، دون ضوابط قانونية أو رقابة قضائية فعالة، أدى إلى تعطيل الإجراءات القضائية، ومنح غطاءً سياسياً للإفلات من العقاب، لا سيما في الحالات التي تتداخل فيها مصالح الدول الكبرى.
-غياب آلية تنفيذية فعّالة لدى المحكمة لتنفيذ أوامرها، خاصة فيما يتعلق بتسليم المتهمين أو جمع الأدلة، في ظل اعتمادها الكامل على تعاون الدول، الأمر الذي يضعف من قدرتها على فرض ولايتها القضائية، ويجعل قراراتها رهينة لإرادة الدول.
-عدم مواءمة تركيبة مجلس الأمن للتوازنات الدولية المعاصرة، واستمرار هيمنة القوى الكبرى على قراراته من خلال حق النقض، وهو ما يُقوض شرعيته، ويُعيق تطور نظام عدالة دولية منصف وشامل.
-افتقار الإحالة بموجب الفصل السابع إلى آلية إلزام قانونية فعّالة لتنفيذ التعاون القضائي في بعض الحالات، خصوصًا حين تكون الدولة المعنية غير طرف في نظام روما، أو عندما تتعارض التحقيقات مع مصالح استراتيجية لدول دائمة العضوية.
ثانيًا: الاقتراحات
بناءً على ما سبق من نتائج، تقترح هذه الدراسة ما يلي:
-ضرورة تقييد استخدام حق النقض (الفيتو) في القضايا المتعلقة بالجرائم الدولية الخطيرة، من خلال مبادرات دولية أو تعديلات على ميثاق الأمم المتحدة، بما يضمن عدم استخدامه لعرقلة العدالة أو حماية الجناة.