Abstract:
من خلال دراستنا لموضوع "مقاومة الأمير عبد القادر من خلال الكتابات الفرنسية"، تبيّن لنا أن هذه الكتابات ليست فقط مجرد توثيق تاريخي محايد، بل هي في كثير من الأحيان انعكاس للتوجهات الإيديولوجية والسياسية للمؤلفين الفرنسيين، خصوصًا في ظل ارتباطها المباشر بالسياق الاستعماري الذي كان يهدف إلى تبرير الاحتلال الفرنسي للجزائر. ومن خلال تحليلنا لهذه المصادر، ومن خلال العودة إلى الوثائق الرسمية، والمذكرات الشخصية، والكتابات الصحفية والأكاديمية الفرنسية، أمكننا استخلاص جملة من الاستنتاجات المهمّة:
1. تعددت صور الأمير عبد القادر في الكتابات الفرنسية، فقد صوّره البعض كمتمرّد على السلطة الفرنسية، وسعت هذه الأقلام إلى تشويه صورته أمام الرأي العام الفرنسي والدولي، فيما ذهب آخرون إلى الاعتراف بشخصيته الاستثنائية كقائد سياسي وعسكري يتمتع بقدرات نادرة، خصوصًا بعد أن أصبح من الصعب إنكار إنجازاته التنظيمية والعسكرية، ما خلق نوعًا من التناقض في المواقف الفرنسية تجاهه.
2. تجاهلت العديد من الكتابات الفرنسية الجانب المؤسساتي لمقاومة الأمير عبد القادر، حيث ركزت فقط على المواجهات العسكرية والمعارك، متغاضية عن الجهد السياسي والإداري الهائل الذي قام به لبناء دولة حديثة. فقد نجح في تقسيم البلاد إلى مقاطعات وإسناد إدارتها إلى مسؤولين محليين، كما وضع شروطًا ومعايير لاختيار هؤلاء المسؤولين، وهو ما يشير إلى مشروع سياسي حقيقي وليس مجرد رد فعل عسكري.
3. سعى الأمير إلى تأسيس سلطة مركزية قوية من خلال إنشاء مؤسسات واضحة المعالم، كدار المشورة التي كانت بمثابة مجلس استشاري وتشريعي، ساهم في سن القوانين وتنظيم شؤون الدولة. هذا الجانب لم يُسلط عليه الضوء في معظم الدراسات الفرنسية التي غالبًا ما حجّمت دوره في هذا المجال.
4. أما من الناحية العسكرية، فقد أنشأ الأمير جيشًا نظاميًا بكل المقاييس، من حيث التدريب والتنظيم والتسليح، واعتمد على التجنيد الإجباري في بعض المناطق، مع توفير الرعاية الصحية والغذائية للمجاهدين. وقد ساعده ذلك على الصمود طويلاً أمام جيش استعماري يفوقه عددًا وعتادًا.
5. تبنّى الأمير عبد القادر استراتيجية عسكرية دفاعية وهجومية في آن واحد، حيث قام ببناء الحصون والقلاع، ووضع خططًا مرنة تتماشى مع طبيعة التضاريس الجزائرية، مما مكنه من شنّ حرب عصابات فعالة ومؤثرة أرهقت الجيش الفرنسي لسنوات. ورغم هذه القدرات العسكرية المتقدمة، حاولت بعض الكتابات الفرنسية التقليل من شأنه بوصفه مجرد "زعيـم قبائلي".
6. انطلاقًا من مرجعيته الإسلامية وثقافته العميقة، سعى الأمير إلى بناء دولة على أسس الشورى والعدل والتنظيم، وهو ما عبّرت عنه بعض الوثائق الفرنسية، لكنها غالبًا ما أُخضعت لتأويلات مشوهة، تصوّر الدين كأداة تحريض لا كمرجعية لبناء الدولة.
7. إن إعادة قراءة الكتابات الفرنسية حول مقاومة الأمير عبد القادر تكشف مدى تأثرها بالمشروع الاستعماري، إذ لم تكن محايدة أو علمية بالكامل، بل كثير منها كتب بهدف خدمة السياسة الاستعمارية أو تبرير الاحتلال. ولهذا، فإن القراءة النقدية لهذه الكتابات تسمح لنا بإعادة الاعتبار لمقاومة الأمير وتفكيك الصور النمطية التي روجت لها بعض الأقلام الفرنسية.
في الختام، فإن مقاومة الأمير عبد القادر لم تكن مجرّد ردّ فعل على الوجود الفرنسي، بل كانت مشروعًا متكاملاً لبناء دولة جزائرية حديثة، دينية، إدارية، عسكرية ومؤسساتية، تجسدت في شخصيته القيادية وفي التنظيم الدقيق الذي أنشأه. ومن خلال إعادة تقييم الكتابات الفرنسية حول هذه التجربة من منظور نقدي، يمكننا تجاوز الرؤية الاستعمارية والتقرب أكثر من الحقيقة التاريخية لتجربة جزائرية رائدة في التنظيم والمقاومة.