الخلاصة:
و بعد اندلاع الثورة التحريرية في أول نوفمبر 1954، أعلن عباس : اليوم وقد انطلق البارود، وتكلم الشعب وظهرت إدارة الأمة واضحة جلية فأنا جندي من جنودها التحق بالقاهرة لا خوفا ولا طمعا بل رغبة في التحرر اقترب عباس من جبهة التحرير الوطني سرياً في نهاية ماي 1955 ثم علانية قبل أن يلتحق بالقاهرة في 25 أفريل 1956، وأعلن عن حل حزبه الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في 30 جانفي 1956. ترأس الحكومة الموقتة الأولى والثانية (19) سبتمبر 1958-27 أوت (1961) نائب عن مدينة سطيف، ورئيس لأول مجلس تأسيسي للجزائر المستقلة واستقال منه احتجاجا الحرمان مجلسه من التشريع، ووضع تحت الإقامة الجبرية في فترتي الرئيسين بن بلة وبومدين، وأكرمه الرئيس الشاذلي بن جديد بوسام المقاومة في أكتوبر 1984.
هذه حياة شخص نذر حياته من أجل الجزائر طوال عمره، فبدل أن يكرم بعد 1962 ، حرم من الحرية التي كان يسعى الحصول عليها لشعبه ووطنه ونعتقد أن السبب في ذلك هو أن الذين تعاملوا معه بهذه الكيفية لا ماض لهم في الحركة الوطنية ولا شهادات علمية ولا مال. وآخر ما يمكن قوله أن فرحات عباس يستحق كل تقدير واحترام من الجزائريين. نعم حارب عباس النظام الاستعماري، نعم أمن بالحوار منذ بداية مشواره السياسي حفاظا على أرواح المسلمين الجزائريين والفرنسيين الجزائريين الأحرار. كان يحلم بالاستقلال فقد تحقق في حياته، أما حلمه الاقتصادي والثقافي فلم يتحقق.
وفي الأخير يمكن القول أن حياة القائد فرحات عباس النضالية مرت بمراحل هامة هي على النحو التالي :
المرحلة الأولى: وهي مرحلة البحث عن وطن داخل فرنسا، أو نقْل الجزائر من منطقة محتلة إلى مقاطعة فرنسية مباشرة، مَثلَه في ذلك مقاطعتي الألزاس و اللورين أثناء احتلال ألمانيا لهما، حيث قامت هذه الأخيرة بتحويلهما إلى مقاطعتين ألمانيتين، ومنحت الجنسية الألمانية لكل سكانهما بدون شروط، وأصبحتا جزءا من التراب الألماني.
لقد أراد فرحات عباس أن يجعل جزءا من جغرافية الوطن العربي الإسلامي قطعة من أوروبا، وهدفه في ذلك إنقاذ الجزائريين المسلمين من الاحتلال والظلم و القهر والجهل و القوانين الاستثنائية، و إدماجهم في الحضارة الغربية أو بفرنسا مباشرة، وبالتالي يصبح كل سكان الجزائر المسلمين فرنسيين، مع حرصه دائما على محافظتهم على أحوالهم الشخصية الإسلامية.
المرحلة الثانية: وتمثلت في البحث عن وطن مع فرنسا.
فبعد أن اصطدمت سياسة الاندماج التي دعا إليها فرحات عباس، وهلَّلَ لها كثيرا، وبحث عن مبرراتها و أهدافها وسخر لها قلمه ولسانه و أحلامه، على أرض الواقع الحقيقي، ورأى أن سياسته الاندماجية لا يمكن تحقيقها أبدا على أرض الجزائر مهما طال الزمن.
وبوصوله سن الأربعين أو كما يسمى سن الحكمة و التعقل، كان ذلك في بداية الأربعينات من القرن الماضي استخلص نتائج سياسته الاندماجية، وعرف الواقع أكثر من خلال نشاطه السياسي داخل المجالس النيابية، واتصاله بغلاة المحتلين، وقدرته على تحليل نظرتهم الضيقة، وفهم عمق فكرهم، وخيبة أمله في فرنسا الأنوار، فرنسا الليبرالية،
والقوة البروليتاريا الفرنسية، التي كان يعتمد عليها كثيرا في الوقوف إلى جانبه في سياسته الاندماجية.
المرحلة الثالثة: البحث عن وطن خارج فرنسا.
بعد أن يئس فرحات عباس من سياسته، ومن ألاعيب المحتلين، وساستهم في فرنسا، وحرصهم على إمتيازاتهم، وإبقائهم على الشعب الجزائري في الفقر والجهل، ورفض منحه أية حقوق تعيد له كرامته وسعادته على أرضه وجد أمامه جماعة من شباب المنظمة الخاصة المنبثقة عن حركة الانتصار للحريات الديمقراطية تعلن عن اندلاع الثورة الجزائرية باسم جبهة التحرير الوطني، التي اتخذت من الثورة المسلحة وسيلة لتحقيق السيادة الجزائرية، وتحرير الجزائر من الاحتلال.
فكان على فرحات عباس إما أن يساير شعبه في الكفاح التحرري وإما أن يخرج عن مسيرة أمته. ففكر وراجع نفسه وسياسته، فتيقن بأن اللغة الوحيدة التي يفهمها المحتلون المتطرفون هي لغة الرصاص، فاختار الانضمام إلى الثورة مقدما بذلك خبرته السياسية الطويلة، وحكمته كشيخ محنك.