Abstract:
إن التحصيل الدراسي يمثل أحد أهم المؤشرات الحيوية لقياس فعالية المنظومة التربوية، باعتباره انعكاسًا مباشرًا لمستوى أداء التلميذ، وتأثيرًا مركبًا لعوامل عديدة تتشابك لتشكّل في النهاية نتائج تعليمية متفاوتة. وقد أكدت الأدبيات التربوية والنفسية أن التحصيل لا يتأثر فقط بالقدرات العقلية والمعرفية للتلاميذ، بل يتأثر أيضًا بسياقات بيئية واجتماعية ومؤسسية، من بينها الالتزام الوظيفي للأساتذة، بوصفهم الفاعل الأساسي في العملية التعليمية.
فالالتزام الوظيفي لا يُعد مجرد حضور جسدي أو أداء لواجبات وظيفية، بل هو شعور عميق بالانتماء والمسؤولية والمبادرة نحو تحقيق الأهداف التربوية للمؤسسة، وهذا الالتزام هو ما يُترجم في النهاية إلى ممارسات تدريسية فعّالة، تواصل إنساني إيجابي مع التلاميذ، وتخطيط تربوي يتماشى مع حاجاتهم وواقعهم.
ومن هذا المنطلق، فإن فهم العلاقة بين التزام الأستاذ وتحصيل التلميذ لا يمكن عزله عن طبيعة المؤسسة، المناخ المدرسي، التكوين التربوي، والظروف الاجتماعية المحيطة، مما يجعل دراسة هذه العلاقة ضرورية لأي إصلاح تعليمي يُراد له النجاح والاستدامة.
انطلاقًا من الأبعاد النظرية التي تم تناولها، جاءت هذه الدراسة التطبيقية الميدانية لتُقارب الواقع التربوي المحلي بثانوية الصديق بن يحيى (البيرين)، سعيًا إلى الكشف عن مدى التزام الأساتذة وظيفيًا، وتأثير ذلك على نتائج التحصيل الدراسي للتلاميذ. وقد اعتمدت الدراسة على استبيان موجّه لعينة من الأساتذة، وتم تحليل البيانات باستخدام برنامج SPSS لاستخلاص المؤشرات الإحصائية.
وقد مكنت النتائج من الوقوف على واقع مركّب يتداخل فيه الإيجابي والسلبي؛ حيث أظهرت الدراسة مستويات متفاوتة من الالتزام الوظيفي، تراوحت بين المرتفعة (في ما يخص الرضا عن العمل، احترام البرامج الدراسية، والإيمان بتأثير الالتزام على التلاميذ)، والمتوسطة أو الضعيفة (في ما يخص التعاون بين الزملاء وتفضيل العمل الجماعي). كما أظهرت نتائج التحصيل الدراسي إدراكًا عامًا لدى الأساتذة بتأثير البيئة التربوية والعلاقات الإنسانية والوسائل البيداغوجية على أداء التلميذ.
وعليه، تؤكد هذه الدراسة أن أي محاولة لتحسين التحصيل الدراسي لا يجب أن تُغفل العامل البشري، وعلى رأسه الأستاذ، باعتباره عمود العملية التعليمية.
* أهم نتائج الدراسة
1. الاتجاه العام للالتزام الوظيفي لدى الأساتذة كان متوسطًا يميل إلى الارتفاع، مع تسجيل مستويات عالية في الرضا الوظيفي والالتزام بالبرنامج الدراسي، ومحدودية في التعاون المهني.
2. التحصيل الدراسي بحسب رأي الأساتذة كان في مستواه المتوسط، مع اتفاق شبه جماعي على أهمية العلاقة الإنسانية، والبيئة التربوية، والوسائل الحديثة في تحسينه.
3. توجد علاقة ارتباط إيجابية بين مستوى الالتزام الوظيفي لدى الأستاذ ونتائج التلاميذ، ما يعزز أهمية الاستثمار في العنصر البشري كمدخل لتحسين جودة التعليم.
* التوصيات:
استنادًا إلى ما سبق، يمكن تقديم جملة من التوصيات العملية:
• تعزيز برامج التدريب التربوي للأساتذة بما يرفع من مهاراتهم المهنية ويقوي حسهم بالانتماء المؤسسي.
• تحفيز التعاون بين الأساتذة من خلال أنشطة جماعية، لقاءات تنسيقية، ومشاريع تعليمية مشتركة.
• تحسين ظروف العمل المدرسية من حيث التجهيزات، الراحة النفسية، وعدد ساعات العمل بما يعزز الاستقرار المهني.
• تشجيع استخدام الوسائل الرقمية والتكنولوجية في التعليم، وتوفير الدعم الفني المستمر للأساتذة.
• مأسسة العلاقة بين المدرسة والأسرة عبر فتح قنوات تواصل دورية ومباشرة، لتحفيز الأولياء على دعم تعليمي فعّال.
• تخفيف الضغط البيداغوجي عن الأساتذة من خلال مراجعة كثافة البرامج، وإعطاء هامش حرية أكبر في تكييف طرق التدريس.
* آفاق مستقبلية للبحث:
تفتح هذه الدراسة الباب أمام العديد من البحوث المستقبلية التي يمكن أن تتعمق أكثر في:
• دراسة العلاقة بين الالتزام الوظيفي وجودة الحياة المهنية للأساتذة.
• قياس أثر البرامج التكوينية على التزام الأساتذة وتحسين أدائهم.
• تحليل مكونات التحصيل الدراسي من زاوية الخصوصية الثقافية والاجتماعية الجزائرية.
• إجراء دراسات مقارنة بين مؤسسات تعليمية مختلفة (الريف/المدينة، العام/الخاص).
• الربط بين التحصيل الدراسي ومؤشرات أخرى مثل الذكاء العاطفي، التحفيز الداخلي، وقيادة الإدارة التربوية.
في ضوء النتائج المتوصل إليها، يتأكد أن تعزيز الالتزام الوظيفي للأساتذة ليس ترفًا إداريًا بل ضرورة تربوية، وأن أي تطور في مستوى تحصيل التلاميذ يجب أن يبدأ من الفاعلين داخل القسم، أي من الأساتذة أنفسهم. ومن هنا تبرز الحاجة إلى رؤية متكاملة تربط بين جودة التسيير الإداري، الدعم النفسي، التحفيز المهني، وتطوير البيئة التعليمية، لأن التعليم لا يمكن أن يزدهر إلا عندما يجد الأستاذ تقديرًا، دعمًا، وفضاءً مهنيًا يسمح له بالإبداع والتميّز..