Abstract:
مقدّمـــة:
كان من فضلِ الله علينا – العربَ- وعلى النّاسِ أن خصّنا بإنزالِ آخرِ ميثاقٍ بين السّماءِ والأرضِ لم تعرف القرونُ الخاليةُ مثلَه حتّى ذلك الحين، فهو ختامُ المسك وواسطةُ العقد، وشاءت إرادةُ الباري -عزّ وجلّ- أن تكون بنتُ عدنان هي وعاءُ هذا الكنز الرّباني المقدسِ، لأنّ ذلك هو الدّأبُ مع من تصرّم من الماضين، يُرسَل فيهم الرّسولُ بلسانِهم ليكون قريباً منهم ويستطيع بذلك أن يُلقنهم حجرَ الحجّة واحداً تلو الآخر، غير مُدافَعٍ من طرفهم وأنّى لهم أن يستطيعوا ذلك ؟
وكان من الحكمةِ البالغة أن يُؤيَّد كلُّ واحدٍ من هؤلاء الرّسلِ الكرامِ بما يشدّ أزرَه للوقوف في وجهِ طغيانِ المتجبّرين والمجرمين، في مقابلِ ما يدفع المؤمنين به إلى تيقّنهم ورسوخِ ذلك في نفوسِهم، فكان من علمِ الله أن جعل لكلِّ هؤلاء منهجاً ومعجزةً منفصلين عن بعضهما بعضٍ يتجلّى المنهجُ في الوحي والشّريعةِ الخاصّةِ بكلّ مرسلٍ، ويأتي بعدها برهانُ المعجزةِ، وهذا ما يظهر في رسالةِ موسى - عليه السّلام - إلى فرعونَ وبني إسرائيلَ له منهجٌ هو شريعته مع التّوراة، ومعجزةٌ هي الآياتُ التّسعُ، وعيسى بن مريم - عليهما السّلام – وشريعته مع الإنجيل أيضا، وإبراءُ المرضى وإحياءُ الموتى، وغيرُهما كثيرٌ وشاءت قدرةُ فاطرِ السّماواتِ والأرضِ أن تكون آخرُ رسالةٍ بين السّماءِ و الأرضِ تحمل المنهجَ مع المعجزةِ وجهين لصورةٍ واحدةٍ، فكان القرآنُ الكريمُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، ولا غرابةَ في ذلك ما دام أنّ هذا آخرَ عهدٍ، وكذلك أنّ ما سبقَه من شرائعَ وكتبٍ وصحفٍ قد نالها ما نالها من تحريفٍ وتزيّيفٍ، قلنا فلا غرابةَ أن يحمل عواملَ حفظِه ووسائلَ حمايته في أثناءِه وطيِّ كشحِه، فكان أن تحدّى كلَّ البشرِ ومعهم الجنُّ عامّةً والعربُ خاصّةً، أن يأتوا بمثلِه في أقلِّ حجمٍ له أقصرِ سورةٍ منه، لكنّهم عجزوا.
القرآنُ الكريمُ جاء باللّغة التي كان يتكلّمها العربُ، من نفسِ الحروفِ التي يتألّف منها كلامُهم، لكنّه مع ذلك كان هو الثُّريّا، وغيرُه الثّرى، لأنّه ببساطةٍ من إبداعِ من قال للسّماءِ والأرضِ ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﭼ فصلت: ١١ ، وسحرُ جمالِه وروعتِه وطريقِةِ نظمِهِ للمعاني ودقّةِ اختيارِه للألفاظِ المعبّرةِ عنها، كلُّ ذلك وغيرُه سحرَ أربابَ البيان وملوكَ الفصاحة من قريش، ولكنّها المكابرةُ والعزّةُ بالإثم هي من أعمت بصيرتَهم، إلاّ أنّ هناك من غَالَبَ هذا العارضَ الممجوجَ، وصدعَ بكلمةِ الفطرةِ التي انطلقت من داخلِه، كالذي قاله الوليدُ بنُ المغيرة، وكالذي كان يفعله أبو جهل وغيرُه من الاستماع ليلاً لتلاوةِ رسولِ اللهِ – صلّى الله عليه وسلّم- لكن غلبت عليهم شقوتُهم، فانبعث أشقاها قائلاً في وصفٍ كالحٍ كوجهِهِ بعد أن غالب هذه الفطرة، إنّ هذا الكلامَ – يعني القرآنَ- سحرٌ، وليته ترك هذا النداءَ يفصحُ، لأنّه يعرف من قرارةِ نفسِه أنّه ليس كأحدٍ من كلامِهم سواءً النّثرَ أو الشّعرَ، فأراد أن يتخلّص من هذه الورطةِ التي أوقعوه فيها كَحَكَمٍ أن يقول ما قال، جازاه الله جزاءَ الكلاب العاويات وقد فعل.
وبقي القرآنُ الكريمُ يفعل في النّفوسِ وقبلها العقولِ، وقبلهما وبعدهما القلوبِ، ما شاء اللهُ له أن يفعل فالْتَفَتَ المسلمون إليه والتفّوا حوله مدارسةً وتلاوةً وتدبّراً و تأمّلاً، ففتح اللهُ على كلِّ جيلٍ بما ناسب عقولَهم وأفهامَهم وثقافتَهم، وأيضاً بما شاء اللهُ - سبحانه وتعالى- أن يعرفوا منه، ولا زال ذلك متواصلاً وسيبقى إلى ما شاء الله، ومع كلِّ هذا لا زال غضًّا طرياً كأنّه نزل لتوِّه.
إنّ كنوزَ القرآنِ الكريم البلاغيةَ واللّغويةَ لا تنفد وهو في هذا البحرُ الذي لا ساحلَ له يحتاج فقط إلى ذوي القرائحِ الفذّةِ والفهومِ النّافذةِ ثاقبةِ الذّكاءِ لاستخراج دررِهِ ومكنوناتِهِ، وكما قلنا فلكلِّ عصرٍ ثقافتُه ومكوناتُه الحضاريةُ والمعرفيةُ، و بدهي أن تختلف نظرةُ كلِّ عصرٍ ومصرٍ لما كان قبلهم من معارفَ وعلومٍ إضافةً ونقصاً، وهذا ما حدا بالعلماءِ النّحاريرِ أن يفنوا أعمارَهم في هذا الشّأن دونما كللٍ أو مللٍ إسهاماً منهم في خدمةِ كتابِ اللهِ وكشفِ الإعجازِ في هذا الدّستورِ الرّباني الخالدِ، والإعجازُ القرآني يشمل مختلفَ مناحي الحياةِ في الدّنيا والآخرةِ، ولا زال هذا الكتابُ وسيبقى على كرِّ الأيام ومرِّ العصورِ معجزةً لغويةً وبلاغيةً باهرةً أفحم اللهُ بها خلقَه.
وبما أنّ شرفَ العلمِ من شرفِ موضوعِه آثرتُ أن أختارَ الوقوفَ على بعضِ الجزئيات المعجزةِ – والقرآنُ كلُّه كذلك– من النّاحيةِ اللّغويةِ والبلاغيةِ في سورةٍ من سوَرِهِ لعلّي أضيف لبنةً ولو صغيرةً في هذا الصّرحِ الممرَّدِ خدمةً لهذا لكتابِ العظيمِ ولغتِهِ، ورجاءً لنيلِ رضى اللهِ سبحانه و تعالى.
لقد تبارى علماءُ الاعجازِ البياني قديماً وحديثاً لتبيان وجهِ المزيّةِ في اختيارِ مفرداتِ القرآنِ وترتيبِها وتراكيبِه وعلاقاتِها، فسالت العلماءُ من ذلك أوديةً بقَدَرِها في هذا الجانب وجاء بحثي هذا يَدْرُجُ بخطًى وئيدةٍ في هذا السّبيل، إجابةً لأسئلةِ تطرح نفسَها، نذكر منها على سبيل التّمثيل:
- ما جدوى الدّراسةَ اللّغوية الأسلوبية لتبيان الجوانب الاعجازية في القرآن الكريم ؟
- كيف نقارب النّص القرآني نحوياً وأسلوبياً لنقف على تفرّده اللّغوي على سائر النّصوص ؟
- ما الذي يجعل الكلامَ بليغاً ؟ ويجعل بعضَ الكلام أبلغَ من بعضٍ ؟
فهدف هذا البحث هو كشفُ أوجه الاعجاز النّحوية والأسلوبية في المدونة المختارة وهي سورة آل عمران الزّهراء، ومحاولةُ تجليّة تضافر كلٍّ من النّحو والبلاغة لخدمة العبارة بدايةً من الكلمة وانتهاءً بالنّص مروراً بالجملة، مع التّركيز على ثنائية (اللّفظ - معنى) أو النّظم، وللإجابة عن هذه الأسئلة اقتضى ذلك ضرورةً خطّةً تمثّلت في فصلين الأوّلُ وموضوعه الإعجاز اللّغوي النّحوي، تفرّع إلى مبحثين، الأوّلُ خصّصتُه للاختيار النحوي والثّاني للاختيار التّداولي، وأمّا الفصلُ الآخرُ فمداره حول الاختيار الأسلوبي، و يُقَسَّم أيضًا بدوره إلى مبحثين، أولاهما كان يدور على الاختيار السّياقي، والثّاني خاصّ بالانزياح الدّلالي وقبل ذلك مقدّمةٌ، يليها مدخلٌ تتبّع سيرورةَ الإعجاز عبر التّاريخ بشكلٍ موجزٍ ليضعَنا في صورة موضوعِ البحث، وختمتُ ذلك بمجموعة نتائج وخلاصات قد تكون منطلقاتٍ نحو آفاقٍ بحثيّةٍ بإذن الله.
لقد حتّمت علينا هذا الدّراسةُ كغيرها من الدّراسات العلميّة التّقيّد بمنهجٍ يتّسقُ من خلاله البحثُ ويصيرُ ذا عمقٍ معرفيٍّ وجدوىً فكريةٍ، فكان لزاماً عليَّ انتهاجُ المنهجِ الوصفي التّحليلي في وصف وتحليل مكوّنات المدوّنة المختارة للوقوف على جزئياتها ودقائقها، هذا إضافة إلى المنهج الأسلوبي خاصّة في جانبه المتعلّق بالتّراكيب، وذلك لفتح مغاليق البُنى الأسلوبية في السّورة الكريمة وإظهار وجه المزيّة والتّميّز فيها مقارنة مع غيرها من الكلام كما أنّني استعنت بالمنهج التّداولي لكشف تجلّيات مقام الكلام أو الخطاب، ومن ثمّ إبراز مقاصدِ المتكلِّم، وأثرِها في المخاطب لأنّ مدارَ الكلام هو الفهمُ والإفهامُ وما يكتنفهما من إقناع وإمتاع.
إذا أردنا التّحدث عن الدّراسات السّابقة لهذه الدّراسة التي بين يديّ، أجد دراستين الأولى موسومة بـ: المعجزة الكبرى في القرآن الكريم لصاحبها أحمد عمر أبو شوفة، وقد بذل فيها جهداً طيّباً لكشف جوانب الإعجاز في كلام الله، إلاّ أنّ الاعجاز اللّغوي والبلاغي كان عرضياً ضمن الأوجه الاعجازية الأخرى، أي: لم يكن مقصوداً بالدراسة لذاته، أمّا الدّراسة الأخرى فكانت بعنوان: من روائع البيان في سور القرآن للمهندس مُثَنَّى محمّد هُبَيَّان، وهي دراسةٌ رائعةٌ وظّفت كلَّ علوم اللّغة من بلاغةٍ ونحوٍ وغيرِهما في تناولها لكلام الله كلِّه مُتبنّيةً طريقةَ طرح السّؤال والجواب في ذلك، إلاّ أنّ هذه الدّراسةَ هي غَيْض من فَيْض، وشهادةُ صاحبِها الذي أكدّ على أنّها قراءةٌ شخصيةٌ له لا يمكن بحالٍ أن تُلغي قراءاتٍ أخرى.
طبعًا بحثنا هذا ليس بدعاً في هذا المضمار، بل كغيره من الدّراسات الأخرى صادف عقباتٍ و صعوباتٍ، نلخّصها في التّحفظ الذي لازمني طيلةَ هذا البحث، فكلّ كلمة أخطّها أو أُثبّتها يجب أن أمرّرها على غربال الرّواية والنّقل قبل مصفاة الدّراية والعقل، لكي لا أكون في زمرة من قال برأيه في القرآن الكريم، إضافةً إلى قلّة المراجع والدّراسات في بعض الجوانب التي لها علاقة ببعضِ فروع علم اللّغة الحديث والنّص القرآني، ونمثّل لذلك بمبحث الحجاج، عداَ الدّراسة الرّائدة لعبد الله صولة - رحمه الله-، وكذا ندرتِها تمامًا في بعضها كحقل الاستعارة، إلاّ أنّني وفي اللّحظة نفسها أجد كمًّا هائلاً من المعلومات في كتب التّفسير التي أتيحت لي تجعلني أقف حائراً أيّها أُقدّم، وأيّها جدير بالتأخير نظراً لتنوّعِها وثرائِها، وهنا يمكن أن أذكر طرفا من المصادر والمراجع التي اعتمت عليها كتفسير الزمخشري الكشاف والتحرير والتنوير والبحر المحيط والتفسير الكبير ومفاتيح الغيب إضافة إلى كتابي أسرار البلاغة ودلائل الاعجاز للجرجاني وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية وكذا الظاهرة القرآنية ومن بلاغة القرآن وكتاب النبأ العظيم وكتاب النقد والبلاغة المعاصرة وكتاب الحجاج وكتاب الاعجاز القرآني وكتاب من روائع البيان وكتاب الاسلوبية والتداولية واستراتيجيات الخطاب والابحاث الرائعة لفاضل السامرائي وكتاب الاستعارة في النقد الأدبي الحديث وغيرها كثير .
وفي الأوّل والأخير هذا جهدُ المقلّ، وهو محاولة بحثيّة في هذا البحر الزّخّار، تمثّل إسهاماً طالما صَبَوْتُ إليه، وحلماً راودني مرّاتٍ ومرّاتٍ، قد يكون صار حقيقة ولو في الجزء اليسير منه، كلّ هذا خدمةً لكتاب الله الكريم في المقام الأوّل، وللّغة العربية بالدّرجة الثّانية وعذري في هذا وذاك أنّي إنْ أصبتُ فلي أجران وإن أخطأتُ فلي أجر واحد.
ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﭼ هود: ٨٨.
قندوزة: ليلة الأحد لستٍّ خلوْن من جمادي الآخرة 1438 هـ .
الموافق لـ : 05 من مارس 2017 م .