الخلاصة:
تطورت الجريمة المنظمة مع تطور المجتمعات على مر الأزمنة والعصور، متأثرة في تطورها بمجموعة من المتغيرات الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، ومع كل حقبة زمنية تبرز على الساحة المحلية، الإقليمية، والدولية أشكال وأنماط إجرامية ترتبط بتلك الحقبة الزمنية، وبالمجتمع الذي تجد فيه تلك الجرائم بيئة مناسبة للانتشار والتغلغل ،ومع بروز ظاهرة العولمة برزت معها مجموعة من الظواهر الإجرامية المستجدة والمستحدثة التي يرتبط عدد كبير منها بعصابات الجريمة المنظمة، حيث ساهمت العولمة في تسهيل وتوفير خيرات متنوعة أمام تلك العصابات الإجرامية.
الأمر الذي جعل نشاطها يتميز بالطابع الدولي العام للدول والقا ارت، ومع هذه الخيرات برزت على الساحة الدولية جريمة جديدة تهدد المجتمعات الإنسانية، وتعوق من نموها وتفضي إلى نتائج سلبية على كافة الأصعدة الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والصحية، متمثلة في جريمة الاتجار بالبشر والتي وصفتها هيئة الأمم المتحدة بأنها "وصمة عار في جبين المجتمع الدولي" لما تشكله من مأساة إنسانية حقيقية وتهديد كيان وأمن واستقرار كل الدول والمجتمعات البشرية.
وتعتبر جريمة الإتجار بالبشر ثالث أكبر تجارة غير مشروعة في العالم بعد الإتجار في السلاح وفي المخدرات، حيث يقف ورائها عصابات كبيرة لنقل أعداد كبيرة من البشر عبر الحدود الدولية .
كان لجريمة الاتجار بالبشر مظهر آخر في الماضي هو الرق، حيث تعتبر تجارة الرقيق من أقدم أنواع التجارة في المجتمع الإنساني القديم، وتشكل جريمة كبيرة في حق الإنسانية والتي يستغل الإنسان فيها من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وكانت تنتشر بصفة خاصة بعد الحروب التي كانت تدور بين القبائل أو من خلال عمليات الخطف المنظم، وتتم عملية البيع والشراء فيما كان يسمى بسوق الرقيق أو سوق النخاسة، وعندما انتهت تلك التجارة ظهرت صور أخرى مختلفة للإتجار بالبشر وراء مسميات وأشكال أخرى كالرق الأبيض، والإتجار بالأعضاء البشرية.
يسعى المجتمع الدولي لمكافحة هذه الظاهرة والتصدي لها بكل قواه، بوصفها شكلا خطي ار ومخزيا من أشكال الاسترقاق العالمي الجديد ونمطا مأساويا من أنماط العبودية المعاصرة التي ما ازلت تخضع لها أعداد ضخمة ومتزايدة من البشر، الذي يجري استغلالهم جنسيا أو جسديا أو الاثنين معا، داخل وعبر الحدود الوطنية لبلدانهم بوسائل وطرق شتى، سواء باستخدام القوة والإكراه، أو بالخداع والتحايل والتضليل، وأمام الدعوة العالمية لمكافحة هذه الجريمة.
أولت الجزائر اهتماما كبي ار بمكافحة جريمة الإتجار بالبشر فانضمت إلى الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات التي تحظر تلك الجريمة كالاتفاقيات التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة بالرق لسنة 1965، واتفاقية السخرة لعام 1930، وبروتوكول منع ومعاقبة الإتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال لسنة 2000 وغيرها من الاتفاقيات الدولية المناهضة لهذه الجريمة.
وتطبيقا للالتزامات الدولية للجزائر انعكس ذلك في قوانينها الداخلية، حيث أدخلت تعديل على قانون العقوبات سنة 2009 الذي بموجبه تم إنشاء القسم الخامس مكرر تحت عنون الإتجار بالأشخاص، والقسم الخامس مكرر 1 تحت عنوان الإتجار بالأعضاء، وأيضا القسم الخامس مكرر 2 تحت عنوان تهريب المهاجرين، وقد جاءت المبادرة بإعداد هذا التعديل من منطلق إد ارك الجزائر لبشاعة جريمة الإتجار بالأشخاص كونها منافية للقيم الإنسانية التي تحض عليها الأديان السماوية.
فضلا عما تمثله من انتهاك لك ارمة الإنسان وانتهاك لحقوقه الأساسية في الحياة من ك ارمة وأمن وحرية ومساواة، واقتناعا منها بأن النساء والأطفال يمثلون الفئات الأكثر تضرر من هذه التجارة المحرمة. وتبرز أهمية هذه الدارسة في كون الجزائر ليست بمنأى عن هذه الظاهرة التي تستقطب الفئات المستضعفة من قبل عصابات الإتجار بالأشخاص، لذلك حاولنا من خلال هذه الدارسة إبراز الجانب القانوني لهذه الجريمة ومعرفة مدى فاعلية الأدوات المستخدمة لمكافحة هذا النوع الخطير من الجرائم.
وتكمن أهمية هذه الدارسة في خطورة وانتشار هذه الظاهرة، فالإتجار بالأشخاص ظاهرة عالمية تؤثر على معظم البلدان في العالم، فهي جريمة تحدث داخل وعبر الحدود القومية ولم تعد محددة في النظام الوطني أو الداخلي فقط، كما تعد هذه الجريمة الأكثر بشاعة والأكثر رعبا، لأن عصابات الإجرام المنظم تنزل إلى درك ممارسة الإتجار بالإنسان شأنه شأن الإتجار بالأشياء المادية.
كما تم اختيار البحث في الإتجار بالأشخاص لأهميته في المجتمع الدولي الذي سلط عليه الضوء بشكل ملحوظ من خلال المؤتمرات والاتفاقيات الدولية، كما أن الإتجار بالأشخاص يندرج ضمن موضوع حقوق الإنسان، الذي يشغل اهتمام الحكومات والشعوب.
كما تكمن أهمية هذه الدارسة في أنها ستساعد على إبراز مدى الاهتمام الذي توليه الدول لحقوق الإنسان، ومكافحة الإتجار بالأشخاص بصفة خاصة، من خلال الجهود التي تبذل على الصعيد المحلي.
وتعود أسباب اختيار الموضوع إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية.
فالنسبة للأسباب الذاتية فيعود اختيارنا للموضوع إلى رغبتنا وميولنا للبحث في هذه المسألة ود راسته بصفة خاصة، وبصفة عامة تزويد المكتبة القانونية بالد راسات الحديثة واثراها ولو بجزء بسيط في هذا الموضوع.
أما الأسباب الموضوعية فقد تم اختياره بناء على الإحصائيات المروعة عن الاتجار بالبشر، التي يصدرها التقرير العالمي الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لم راقبه المخدرات ومكافحة الجريمة كل سنة، وبالتالي سنحاول التعرف على الجانب القانوني لهذا الموضوع الذي ذاع صيته بشكل واضح في السنوات الأخيرة والذي أصبح يأخذ صوار معاصرة لم تعرف سابقا.
وتم طرح إشكالية للموضوع تتمثل في:
ما هي الآليات القانونية التي اتخذها المشرع الجزائري في مكافحة جريمة الاتجار بالبشر؟
ولقد اعتمدنا في دارسة هذا الموضوع تقسيم خطة الدارسة إلى فصلين، حيث تطرقنا لدراسة ماهية جريمة الاتجار بالبشر (فصل أول) وبعدها تطرقنا إلى آليات مكافحة جريمة الاتجار بالبشر (فصل ثاني).
وفي الأخ