Abstract:
مما لا يختلف فيه اثنان هو أنه لايوجد أي عمل بشري يحمل الكمال في طياته وخال من أي نقائص، ورغم هذا نجد أن طه عبدالرحمن سعى جاهدا مستعملا كل القدرة والتفاني حتى يقدم أعمال في مستوى راقي وعمق في التفكير تجعل منها أعمال تستحق التقدير والإحترام، ولعل الهدف المرجومنها هو خدمة المجتمع عربي خاصة والإنساني عامة، كما نجد موقفه صارما اتجاه الحداثيين المقلدين، واستطاع في وقت وجيز أن يمسح معالم تشويه والتحريف التي دعا إليها المفكرين العرب في بعض كتبهم، وهذا ما سرع لظهور طرح فلسفي جديد، وصنع محبين ومؤيدين وهذا نتيجة الفلسفة التوفيقية التي دعا إليها وعبر منها في مشروعه الذي خصه بالتوفيق بين الفكر الإسلامي الأصيل الذي يحمل العالمية والكونية وبين محاولة تحقيق قفزة نوعية في التطور والرقي العلمي والتكنولوجي لكن مع وجود إنسانية الإنسان و أخلاقياتة وبالتالي إبداع حداثة راقية غنسانية و أخلاقية ليست كالحداثة الحالية التي يروج لها والتي هي في حقيقة الأمر حداثة فارغة من كل قيم الإنسانية، ورغم هذا نجد أصحابها الحقيقيون أنفسهم أصبحوا يتنكرون لها، ويرون فيها مرحلة تم تجاوزها ولابد من استبدالها بمرحلة جديدة أسموها ما بعد الحداثة، غير انه نرى للأسف أن كثير من المفكرين المعاصرين العرب مازالوا يدعون إليها ويدافعون عليها .
إن مفهوم الآخر قد تأسس في الفكر الغربي على قواعد ومقاييس صنعها هو بنفسه من ناحية الثقافة ونمط الحياة ونوع الجنس وكيفية العيش، أما الأنا العربي فكان منظوره لمفهوم الآخر يحمل جانب روحي كالتساوي بين الجنس البشري ورقي الروح وقداسة القيم، وعليه لكل البشر الحق في الوجود وعيش حياة مطمئنة آمنة راقية، ومهما كان اللإختلاف بينهما لا يعطي الحق لأي طرف بأن يلغي حقوقه الآخر، فلكل كائن نفس تحمل الوجدان والإحساس وتميل للتضامن والتعاون مع الآخرين، ولكم ما لحق الذات من تحول في طبيعتها راجع في الأساس إلى تأثير السلطات الحاكمة وهذا من خلال أساليبها في خلق الفوضى بين أفراد المجتمع ومحاولة خلق الفوضى من أجل تسهيل عملية التحكم فيهم، هذا كان مغذي للكراهية والعنصرية بينهم، فكانت نتيجة هذا فوارق طبقية وفوارق نفسية بين الأنا والآخر .
إن مسألة الإختلاف تجعل من الضروري للأنا أن يقرر كيف يتعامل مع الآخر المختلف عنه في الجانب المعرفي والجانب الروحي، وهنا توجب عليه غما الإستفادة من قدراته العلمية والمعرفية أو الإبتعاد عنه والإنغلاق على الذات، وهذا ما يجعل لكل طرف خطاب يميزه عن الآخر ويجعل منه صواب لايقبل الخطأ، فوعينا بالضرورة الإختلاف يجعلنا نفرق بين ذواتنا وبين الآخر في جميع النواحي، وبغض النظر عن الصور التي يكون عليها الآخر
إن الإنتقادات عديدة وكثيرة التي تم توجيهها لطه عبد الرحمن طرحنا بعضها فيما سلف، لكن بالرغم من هذا فهو صاحب فكر عقائدي يصفه البعض بإلتزام والتجديد في الفكر العربي المعاصر، فهو يحاول أن يوازن بين تصوراته التنظرية وبين الجانب العملي التطبيقي
نصل في الأخير إلى استخلاص الخصائص التي يرى فيها طه عبدالرحمن ضرورية من أجل تحقيق الفعل التواصلي هي :
- يتميز كل أنا حضاري بمميزات ثقافية وفكرية تجعله يختلف عن الآخر الحضاري، وهذه المميزات التي تتكون من جملة المعتقدات و الثقافة والمعرفة تلعب دور مهم في تكوين تواصل مع الآخر، وهذا ما يطلق عليه طه عبدالرحمن المجال التداولي للأنا، وهذه الميزات تعتبر أساس المجال التداولي العريق .
- إن مفهوم الحداثة هو مفهوم كوني ليس ملك للغرب ولا نستثني منه باقي المجتمعات، وتمثلها في الغرب لم يكن إلا في جانب واحد وهو الجانب المادي خالي من أي قيم و أخلاق، غير أن هذا لا يمنعنا من صنع قنوات تواصل مع الآخر بحيث لا يضر ثقافتنا و هويتنا، وعليه نرى ضرورة استعمال منهج التفكيك ثم البناء وهو الأمر الذي اعتمد عليه طه عبدالرحمن في وضع مبادئ الحداثة مثل مبدأ النقد ثم مبدأ الرشد، ثم مبدأ الشمول، فتطبيق هذه المبادئ يخلق لدينا منهج متكامل ومتناسق يحفظنا من الوقوع في الخطأ عند التواصل مع الآخر والأخذ من معارفه، حتى يتسنى لنا الإستفادة الإيجابية منه
- طه عبد الرحمن يدعو إلى تجاوز الإنتاج الفكري الغربي وتقديم عمل أفضل منه ، وهذا من خلال الاعتماد على آلية التأثيل والتي نرتقي بها ونتعدى آلية التأصيل، مما يمكن من إبقاء على الفكر الغربي بميزاته التي تميزه وفي بيئته التي ولد فيها وبعدها محاولة إثرائه وجعله مناسب لبيئتنا وهذا لن يتجلي إلا من خلال الترجمة التأصيلية .
- نمتلك كل المقومات التي تؤهلنا لتأسيس حداثة إسلامية قائمة بذاتها مستقلة عن الحداثة الغربية، وفي نفس الوقت المحاولة بجدية ربط تواصل فعال معها، والقيام على صياغة مفاهيم جديدة تتلائم مع آليات آلية التأثيل والتأصيل اللتان سنعتمد عليهما، لخلق حداثة نابعة من بيئتنا لها أصولها وثقافتها الخاصة تتميز عن باقي الثقافات والحضارات تمتلك مجالها التداولي الخاص بها .
أما في الإختلاف الفكري و الفلسفي مع الآخر، فيرى طه عبدالرحمن أنه لن يكون تحققه بالنسبة للأمة العربية والإسلامية إلا من خلال ما يلي :
- ليس من الممكن أن يؤسس كل مجتمع أمة في حين العكس صحيح تستطيع كل أمة أن تأسس مجتمع ، فالأمة في تصور طه عبدالرحمن ما يؤسسها هو الهم الأخلاقي والثقافي الذي يتم يحمله من طرف الأجيال المتعاقبة عبر الزمان .
- الجانب الأخلاقي أساسي لإرتقاء أفراد المجتمع إلى مستوى الممارسة والسلوك ، وفي نفس الوقت هو رقي روحي يرفع من مرتبة الأفراد إلى درجة الكمال العقلي .
- الإختلاف الفكري له مستويات عدة، من أجل تحقيقه يجب حصرها أولا و ضبط هذه المستويات كل على حد، وهذا لا يخرج عن التصور الإسلامي الذي يؤيدها ويدعو إليها باعتبارها جزء من مبادئه .
وفي الأخير إن مشروع طه عبد الرحمن الفكري هو مشروع يحاول محاربة التقليد والتبعية في التفكير والمعرفة، وهو مشروع يسعى لإخراج الأنا من حالة الدونية التي يحس بها وحمايته من الإنكساريةوالإنهزامية الفكرية والحضارية أمام عولمة الآخر قوة نفوذه وغطرسته وتعاليه ، لكن هذا لن يتحقق إلا بخروجنا من دائرة التبعية إلى الإجتهاد ومن التقليد إلى الإبداع، طه عبد الرحمن حاول إعادة بعث الإبداع و الإجتهاد في فكرنا العربي الإسلامي، ومراده من هذا ابراز ان في تراثها الأصيل ما يمكن تقويمه واستعادته.