Abstract:
يمكن أن نحوصل في نهاية دراستنا بالقول أن أبو القاسم سعد الله كان بمثابة النموذج الحي والعمل الدءوب ، الذي ارتبط إسمه بتاريخ الجزائر الحديث والمعاصر .
فرأينا أنه ولد في الشرق الجزائري وحفظ القرآن الكريم في صغره وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه بمسقط رأسه كما تأثر بالحركة الإصلاحية التي كان لها صدى واسع في مدينة قمار ، ومما زاد في تكوينهتتوجه إلى الزيتونة بتونس ليكمل فيما بعد مساره العلمي بالمشرق متجها إلى القاهرة ، حيث بدأت تظهر ميوله الأدبية وتكتمل نشأته حينها بدأ يكتب ويفصح عن رأيه لما كانت تشهده البلاد العربية آنذاك عامة ووطنه الجزائر خاصة ، ليواصل رحلته مرة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية فبهذا قد مزج أبو القاسم سعد الله بين كل هذه الثقافات لولي اهتمامه بالتاريخ ، فهذه المحطات التي مر بها كانت كفيلة بتكوينه حيث جعلت منه مغامرا في طلب العلم مجازفا في اقتناص الشهادات متحديا بذلك العديد من الصعاب ، وهذا ما أهله لتقلد العديد من المناصب العلمية والأكاديمية فكان الباحث والأستاذ ، المشرف والدكتور ، الإداري والبيداغوجي ، كما كان دائم الحال والترحال بين المؤتمرات والندوات محاضر ومساهما ومناقشا .
فنهض بالتعليم لأكثر من ثلث قرن وهب فيها نفسه لخدمة العلم والبحث العلمي حيث كون على يده أجيال من الأساتذة والباحثين ، فمن سيرته نجد أنه دخل الحياة الثقافية أديبا لينتهي به الأمر مؤرخا فبدأ حياته العلمية بمعالجة الشعر وطبعها بدراسة الأدب ووسعها بكتابة التاريخ وعمقها بالترجمة وطرح الأفكار الحرة ، وبهذه المواصفات استطاع أن يكون مؤرخا بامتياز وهذا التميز ماشهده عنه معاصريه من خلال آراءهم كونه أحد أعلام الجزائر البارزين ومن أصحاب الهمم العالية والأخلاق الفاضلة .
ولأن استعراض المساهمات التاريخية الفرنسية في العهد العثماني و الاستعماري والدوافع والاتجاهات والمناهج وتعدد أساليبها ومواضيعها التي يطلق عليها تجاوز المدرسة التاريخية الجزائرية كانت بداية لاهتمامات بالدراسات التاريخية الجزائرية وكل مايخدم أهداف الاستعمار في الجزائر بحيث شاركت فيها عناصر مختلفة من ناحية المستوى التعليمي وبعض المسؤولين وصلت لحد النضج بإنتاجها في بعض المقاييس وشروط البحث التاريخي ومشاركة بعض المتخصصين لكن الدور والصفة البارزة لهذه المدرسة أنها كانت تحمل طابع إيديولوجي قبل الصفة العلمية ونقصد بها هنا الأحكام المسبقة والآراء المبدئية والنظرة المتحيزة كونها سعت إلى تهميش دور المجتمع الجزائري ونتج عن هذا كله وجود كتابات تتسم بالنقص الكبير في القيمة العلمية والموضوعية ـ
أما عندما ظهرت المساهمات الوطنية والتي تعبر بصدق عن الشعور الوطني الذي صاحب اليقضة الجزائرية في بداية القرن العشرين نجد أنه قد غلب عليه طابع حركة إحياء التراث من تأليف وتراجم وشخصيات ورحلات ليظهر نمط آخر من الكتابات والتي تتمحور أساسا في معالجة التاريخ الجزائري بالتركيز على البطولات والأعمال الجليلة ، كما عرفت هذه الدراسات فيما بعد توجهات إيديولوجية وسياسية .
إلا أن الجهود المبذولة من قبل هؤلاء كانت بمثابة الأرضية التي لولاها لضاع التاريخ الوطني ، وهذا ما انتهجه أبو القاسم سعد الله في كتاباته حيث يرى من خلالها أن كتابة التاريخ ليست كصناعته فنجده قد انتهج منهجا دقيق في البحث العلمي والفكري معتمدا فيها على الجدية والخبرة وهذا من خلال اهتمامه بكل ماهو جزائري يعتبر بحد ذاته فكر جديد يعمل على ربط التطورات والأحداث والأفكار ونلتمس براعته هنا عندما استطاع أن يملأ الفراغ الذي كان موجودا في جميع حقب التاريخ الوطني بحيث بدأ كتاباته بشكل مرحلي جاءت على النحو التالي :
الكتابات التاريخية الكلاسيكية والتي تمثلت في جمع المادة وتنظيمها وتبويبها واستخلاص نتائج البحث مثل كتابه الحركة الوطنية الجزائرية .
الكتابات التاريخية المتخصصة واسعة التوثيق المميز مثل كتاب أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر وكتاب تاريخ الجزائر الثقافي .
الكتابات الإبداعية التي أضافت أبعاد جديدة منها التأمل والتحليل النقدي العميق وفلسفة التاريخ والمراجعات النقدية
فنجد أن أبوالقاسمسعدالله اعتبر ميدان التاريخ أحد أهم الميادين التي واجه بها سياسة فرنسا وهذا عندما كشف اللثام عن التراث الجزائري وعمل على إعادة ربط الثقافة العربية وإنزالها المنزلة التي تستحقها بجهوده الملموسة و استفراغ الجهد في إحياء التراث وتنشيط الساحة الثقافية وصيانة الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري والأمة بشكل عام فهو لايفرق بين القضايا الخاصة بوطنه الجزائر والقضايا المرتبطة بوطنه العربي الإسلامي فالجزائر في نظره جزء لايتجزأ من الوطن العربي ، ويتمحور هذا من خلال موسوعته تاريخ الجزائر الثقافي والذي كان له فضل السبق في هذا المنحى فانصب على التحقيق والتقصي لإيمانه القوي بأن معرفة الأمم لتاريخها هو إرهاصات لبداية تحقيق وثبة نوعية مميزة ، فتكلم عن الثقافة الجزائرية التي أحبكها في علاقاتها مع محيطها السياسي وتفاعلها مع الواقع فكتاب تاريخ الجزائر الثقافي يعكس ملكة أدبية راسخة وقدرة على الاستقصاء والتقميش وسد ثغرة كبيرة في هذا المجال تعمل على تغطية خمس قرون من تاريخنا الثقافي .
بعد حياة ملئها الكفاح والمثابرة حياة قضاها في إحياء مثله العليا وإحياء التراث العربي الإسلامي توفي قبل أن يصل إلى ماكان يسمو إليه حيث كان يأسف في آخر أيامه أنه لم يترك مدرسة تاريخية جزائرية .