الخلاصة:
إن الدارس والمتأمل للفكر الفلسفي المعاصر لا يكاد يخفى عليه ذلك التحول الجوهري في ثنايا المواضيع الفلسفية، منهجا وموضوعا، وهذا التحول الجذري إن صح التعبير يعزوه المفكرين والفلاسفة إلى منج التحليل الفلسفي، فبعد أنكانت الفلسفة تطرح مواضيع وتساؤلات في مختلف المجالات، أصبحت وظيفتها اليوم تنحصر في التحليل اللغوي فقط وهذا حسب ما يزعم به الفلاسفة التحليليون.
أدى عدم التمييز بين البنية النحوية والبنية المنطقية للغة إلى المشاكل التي دخلت فيها الفلسفة لقرون، إذ ضلت تعالج مشکلات دون وعي إنها ما هي إلا أشباه مشکلات، فالتشابه في التركيب اللغوي للجمل، واختلافها المنطقي سبب الوقوع في الأخطاء الفلسفية، فالصورة النحوية تعتني بشكل الجملة واحترام قواعد النحو مهملة قواعد المنطق ، و بالتالي فإن الصورة النحوية للعبارة أو بنيتها السطحية هي منبع الأخطاء، أما الصورة المنطقية هي صورة من تركيب معين يحدد العلاقات بين المعاني القائمة بين الألفاظ الواردة في الجملة، كانت نظرية الأوصاف المنطقية التي وضعها راسل مهمة من الناحية الفلسفية بفضل علاقتها المباشرة بالمشكلات الفلسفية المتعلقة بالمعنى والإحالة، وبفضل قيمتها التوضيحية كنموذج للتحليل الفلسفي. أنشأت نظرية راسل عن الأنماط المنطقية اتجاهات جديدة في آن واحد في ميتافيزيقا الفئات الوجودية، وفي الوضعية المنطقية المناهضة للميتافيزيقا علاوة على اللغويات البنيوية.
هذا ما أدى إلى وجود اللغة في صدارة اهتمامات "راسل" و " فتجنشتاين" فلم تعد مجرد وسيلة لنقل الأفكار والخبرات ، بل لابد من البحث فيها والتعمق في فهمها ولا يكون ذلك إلا بفلسفة اللغة. لقد أراد بذلك أن يضمن للغة الصرامة والدقة، بدلا من أن تكون ضحية الغموض و الفوضى. وهذا خلال انشغاله بالمشروع اللوجستيكي، الهادف إلى وضع لغة منطقية تشمل كل المعارف في عدة مجالات ، سیاسية ، قانونية ، تربوية وإعلامية ... تأكيدا منهما على أن إرساء التفاهم يقتضي ضرورة تفعيل دور اللغة و إزالة اللبس والغموض الذي قد يكتنفها، لخدمة الإنسان في عصر يزداد فيه سوء التفاهم و يتخذ أبعادا خطيرة .
يمكننا أن نلخص أهم السمات التي توضح أهمية فتجنشتاين في الفكر الفلسفي المعاصر على النحو التالي :
• تحليل نظرية المعرفة عنده، باعتبار أنه ثار على المعرفة التقليدية وانتقدها لاقتصارها في البحث فيما هو ذاتي وموضوعي.
• تحليل معارفنا وتصنيفها إلى معارف أساسية و معارف مستنتجة.
• تقسيم المعرفة إلى معرفة مباشرة ومعرفة بالوصف
• تمحور الذرية المنطقية حول التساؤل عن مكونات العالم، وأنواع الموجودات فيه، والتساؤل حول أنواع القضايا المعبرة عن هذه الموجودات، بالإضافة إلى مكونات هذه القضايا.
• أماعنالصلةبينراسلوتلميذهفتجنشتاينفقدكانتجهودهمامثمرة،حيثساهمافيتطويرالاتجاهالذريالمنطقيالذييقولبالكثرةأوالتعددفيالعالموينكروجود
• يؤكدراسلأنهذهالفلسفةتنظرللعالمعلىأنهمؤلفمنكثرةمنالأشياءالمنفصلةوهيمنطقيةلأنالذراتالتييريدراسلأنيصلإليهاهيذراتمنطقيةوليستفيزيائيةأيأنهاذراتالتحليلالمنطقيلاذراتالتحليلالفيزيائي.
• يرتبط منهجراسلالتحليليللغةبالمنطقالرياضيبوصفهاللغةالأكثرصرامةودقةبلباعتبارهالأساسالأنسبللمعرفة،ومنهناجاءاهتمامهالبالغبهذهاللغةالاصطناعيةالتيوظفهابشكلمتميزفيتحليلهللغةمقارنةببقيةالفلاسفةالتحليلين. وهويرفضاللغةالعاديةلأنهاتضللنابألفاظهاوتراكيبها،كماأنهاغيرمناسبةلصياغةالحقائقالعلمية.
• يبدأتحليلهبالأشياءالتيلهاصلةباللغةوالتيهيمنصميمالعالمالخارجي.
• أن فلسفة فتجنشتاينكانت نقطة تحول حاسمة في الفلسفة المعاصرة ، والواقع أن التحول الجديد في الفلسفة الذي تم على يد فتجنشتاين لايرجع الى النتائج الفلسفية التي اِنتهى اِليها بقدر مايرجع الى المنهج الذي اِتبعه في بحثه الفلسفي ولاشك في أنه (قدم لنا طريقة جديدة) – ذات أثر بالغ – للنظر الى المشكلات الفلسفية القديمة .
• أن فلسفة فتجنشتاينأشبه ماتكون بالثورة على الفلسفة التقليدية . والثورة التي أحدثها افتجنشتاين في الفلسفة لم تكن مقصورة على اِصطناعه طريقة جديدة في الفكر بل كانت واضحة أيضا فيما يترتب على أصطناع هذا المنهج من تغيير موقفنا من الفلسفة نفسها .
• كان فتجنشتاين هو الذي وجه أنظار الفلاسفة المعاصرين الى دراسة اللغة على الرغم من اِقامة فلسفة للغة لم تكن هدفا له ولاجزءاً من هذا الهدف ، فقد بدأ الفلاسفة المعاصرون في السنوات الاخيرة يهتمون بفضل فتجنشتاين بالبحث في طبيعة العبارات التي نقولها عن العقل أو عن الاشياء المادية أو عن الخير، لابالبحث في هذه الاشياء نفسها .
• كان فتجنشتاين أول من وجه أنظار الفلاسفة لاالى مجرد البحث في اللغة العادية فهذا مافعله( مور ) واِنما الى أن لغة الاستخدام اليومي هي الاساس الذي نحكم به على صحة أو بطلان العبارات التي نقولها فكل كلمة يتحدد معناها بناءا على الطرق التي تستخدم بها بالفعل في التشكيلات اللغوية أو (العاي اللغة ) المختلفة الخاصة باللغة اليومية وبذلك تصبح مهمة الفيلسوف في نظر فتجنشتاين هي أن يعيد الكلمات من أستعمالها الميتا فيزيقي الى اِستخدامها اليومي .
• أن فتجنشتاين كان أول من تكلم في المنطق المعاصر على أنه مجرد علامات اِتفاقية لاتكشف عن طبيعة الاشياء .
• أن فتجنشتاين كان أول من قال بأن قواعد المنطق ، اِن هي اِذا ماحللناها . الا قواعد اللغة فأوجد بذلك نوعا من التوازن بين قواعد المنطق من ناحية ، وبين قواعد اللغة من ناحية أخرى على أساس أن صورة المنطق وصورة اللغة متشابهتان لذا فالفكر واللغة تعني شيئاً واحداً .
• أن أغلب الافكار التي ذهب اِليها فتجنشتاين سواء في فلسفته الاولى أو فلسفته المتأخرة مثل أفكاره عن الذرية المنطقية والمنطق وعن النظرية التصورية للغة وعن تحقيق القضايا وعن الخلو من المعنى والميتافيزيقا وعن نظرية الاستخدام الفعلي للغة ، فضلا عن تصوره الجديد لوظيفة الفلسفة والمهمة الفيلسوف وللمنهج الذي يصطنعه أثناء أشتغاله بالفلسفة كل ذلك كان له تأثير بالغ في كثير ممن عاصره أو جاء بعده من الفلاسفة .
• على الرغم مما وجه من نقد إلى فلسفة فيتجنشتاين بصفة عامة، إلا أن ذلك النقد لم يكن، فيما يقرر عزمي إسلام، ليقلل من تأثيره الكبير في الفكر المعاصر. فقد كان لأغلب الأفكار التي ذهب إليها - سواء في فلسفته الأولى أو المتأخرة مثل: فكرته عن الذرية المنطقية وعن النظرية التصويرية للغة، وعن تحقيق القضايا وعن الخلو من المعنى والميتافيزيقا، وعن نظرية الاستخدام الفعلي للغة، وتصوره الجديد لوظيفة الفلسفة ولمهمة الفيلسوف، وللمنهج الذي ينبغي اصطناعة في التفلسف وهو المنهج التحليلي - كان له أبلغ الأثر في كثير ممن عاصره أو جاء بعده من الفلاسفة، ويمكن تحديد هذا التأثير في برتراند رسل، وفلاسفة الوضعية المنطقية، وفلاسفة اللغة المعاصرين.
أخيرا ، إن عملي هذا، ما هو إلا محاولة أردت بها تشكيل دراسة بسيطة لإشكالية اللغة عند الفتجنشتاين"، حارسة على توخي الوضوح والجدية في استقصاء أفكاره، متوخية، قدر الإمكان، السطحية في ذلك . فإذا ما استطعت كان ذلك بعون من الله تعالى، وإن لم يحدث، فعذري أنني اجتهدت. ومن اجتهد وأصاب له أجرين، و من اجتهد ولم يصب، فله أجر واحد.