الخلاصة:
إنّ ثورة الفاتح نوفمبر 1954 لم تكن مبتورة عن المسيرة النضالية الشاقة للشعب الجزائري طيلة ليل الإستعمار ، بل هي نتيجة حتمية لترسبات جهادية مريرة و عنيفة شملت المقاومة الشعبية - المنظمة و غير المنظمة - و صولا إلى العمل السياسي الذي بدأ منذ النصف الأول من القرن العشرين ، وظل يدور في حلقة مفرغة إلى أن وصل إلى طريق مسدود.
إنّ انطلاق العمليات العسكرية في ليلة أول نوفمبر 1954 بتلك الشمولية و البعد الوطني و اشتداد وتيرتها واتساعها طيلة السنوات الأولى للثورة على مختلف الأصعدة السياسية و الدبلوماسية إلى جانب العمل العسكري ، أدى ـ باعتراف الأوساط الاستعمارية ـ بأن الثورة أضحت حقيقة شعبية ، و أنها أخذت في تصعيد مبدأ الكفاح المسلح و أنها ليست كما ادعت عامل خارجي ، خاصة بعد ما حققته من انتصارات إثر هجومات 20 أوت 1955 ، و انعقاد مؤتمر الصومام 1956 ، و ما ترتب عنه من تنظيم هيكلي سياسي و عسكري.
أمام هذا التطور عمدت فرنسا إلى إعداد خطط و برامج و إجراءات و قوانين و أنماط سياسية و عسكرية جديدة ، كان محورها خنق الثورة و محاصرتها .
إن التعرض لإنجاز بحث أكاديمي له أسباب ذاتية و أخرى موضوعية فالذاتية تتمثل في الرغبة الشخصية لدراسة التاريخ المعاصر ، خاصة إذا تعلق الأمر بتاريخنا الوطني وبالذات موضوع ثورتنا ، فضلا عن هذا إضافة لبنة أخرى في البناء التاريخي ، و المساهمة في إثراء مكتبة قسم التاريخ بجامعتنا ، خاصة لدى المهتمين بتاريخ الثورة الجزائرية.
أما عـن الأسبـاب الموضوعـية فـإن تاريخ الـثورة الجزائرية لا يزال مجالا خصبا بحاجة لدراسـات و أبحاث متعددة و متنوعة تغطي فترة الثورة بأبعادها المختلفة ضف إلى ذلك أن الموضوع يفتقر إلى الدراسات التاريخية الأكاديمية الجزائرية ، التي عالجت موضوع التطويق الحدودي للجزائر شرقا و غربا على نحو شامل و مفصل بإستثناء دراسة واحدة أو إثنتين ، أما الباقي فكانت إشارات سطحية تظهر أثناء الحديث عن تطور الثورة الجزائرية و إستراتيجية الإدارة الفرنسية اتجاهها.
يعتبر موضوع (خطي موريس و شال) من الموضوعات التي تكتسي أهمية بالغة بالنسبة لمسار الثورة الجزائرية ، إذ كان بإمكان هذا السد المكهرب أن يفشلها و يضعفها لولا إرادة المجاهدين و إيمانهم في الذهاب قدما بالثورة مهما كان الثمن ، لقد طوّقت المدن و القرى و المداشر و الشوارع بالأسلاك الشائكة و الحراسة المشددة و أقيمت المحتشدات و المناطق المحرمة ، و شنت قوات الاستعمار عمليات عسكرية واسعة شملت كل الولايات التاريخية تقريبا ، عرفت بمخططات (شال) ، و توجهت تلك الاستراتيجية العسكرية الفرنسية بتطويق الحدود الجزائرية الشرقية و الغربية بالأسلاك الشائكة المكهربة التي عرفت باسم خطي موريس و شال ، بعد أن أدرك جنرالات فرنسا أهمية الحدود الشرقية و الغربية في تموين الثورة بالسلاح و الذخيرة .
لإعطاء صورة متكاملة عن حقيقة خطي موريس و شال ، ومدى خطورتهما على مسار الثورة التحريرية ، و استراتيجية الثورة التحريرية في مواجهتهما ، كان علينا ان نجيب عن الإشكالية المطروحة والتي تمحورت حول التساؤلات التالية :
ـ إلى ماذا نرجع جنوح إدارة الاستعمار للتفكير في تطويق الحدود و حصار الثورة من خلال إنشاء خط موريس ؟
ـ ألا يعكس ذلك خوف فرنسا من تطور الثورة في الداخل و توسع نطاقها في الخارج ؟
ـ ما الدافع لإنشاء خط مكهرب ثاني - خط شال -؟ .
ـ ما هي الإستراتيجية التي اعتمدتها الثورة لمواجهة الخطيين المكهربين ؟
ـ ما الإفرازات السلبية لخطي موريس و شال على مسار الثورة و ما آثارها بعد الاستقلال ؟
للإجابة عن تساؤلات هاته الإشكالية اعتمدنا منهجا تاريخيا وصفيا تحليليا و استقرائيا حسب طبيعة الموضوع المطروق ، ففي الكثير من الاحيان نحتاج إلى وصف تلك السدود المكهربة ونحلل دوافع الاستعمار في ذلك ، و استراتيجية الثورة في المواجهة ، و نستقرء تلك البيانات والشهادات الصادرة عن قادة الاستعمار أومن القيادات الثورية عن صراع الحدود المكهربة .
و من أجل التعريف بالموضوع قمنا ببحثه ضمن الفصول الآتية :
ـ فصل تمهيدي : جاء بعنوان (استراتيجية الإستعمار للقضاء على الثورة )، تناولنا فيه انطلاق الثورة و ردود الفعل الاستعمارية ،حيث أظهرنا في البداية أنً انطلاق الثورة كان مشروع بمقتضيات الظروف المحلية الدافعة ، بعد الوعي الثوري و الاقتناع بالعمل المسلح كخيار أوحد لمواجهة القوات الاستعمارية ، خاصة لدى عناصر المنظمة الخاصة ، فيما شكل الظرف الإقليمي قوة إضافية بعد إعلان القطرين الشقيقين – تونس و المغرب - الثورة على عدو مشترك ، أما الظرف الدولي فقد بدى واضحا في شدة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي في ظل الحرب الباردة ،الى جانب انهزام فرنسا في حربها ضد الهند الصينية ، كما تحدثنا فيه عن تطور مسار الثورة و رد فعل السلطات الفرنسية للقضاء عليها بكل ما تملك من وسائل و استخدام إستراتجية و مخططات جديدة تتوافق و تطورات الثورة خاصة بعد مؤتمر الصومام .
ـ الفصل الأول بعنوان (استراتيجية فرنسا في إقامة خطي موريس و شال) قسمناه الى خمسة عناصر، أولا : انتباه فرنسا إلى ضرورة تطويق الحدود ، و العنصر الثاني جاء بعنوان فكرة و ظروف إنشاء الخطين ، كانت البداية بخط موريس ثم شال ، أما العنصر الثالث فتكلمنا فيه عن كيفية إنشاء الخطين من الناحية التقنية ، كما تناولنا الرقابة على الخطين التي شملت رقابة عسكرية و رقابة تقنية ، وكذا التعزيزات التي عرفها خط موريس و في الأخير ذكرنا الأهداف المختلفة لإنشاء الخطين .
ـ الفصل الثاني بعنوان (رد فعل الثورة و استراتيجيتها اتجاه خطي موريس و شال) تحدثنا فيه عن رد فعل الثورة اتجاه إنجاز الخطين ، و سعي الثورة المستمر لإيجاد حل مناسب لاجتياز السد المكهرب ، و بدى ذلك واضحا من خلال تطوير وسائل العبور باستمرار عبر مختلف فترات الثورة ، كما تطرقنا إلى مسألة التدريب والتكوين خارج البلاد فضلا عن الهجومات و المضايقات المستمرة على القوات الاستعمارية ، خاصة بعد تأسيس قيادة الأركان الحربية ، كما تكلمنا عن الجانب الإعلامي الذي اعتمده الثوار كدعاية مضادة للدعاية الفرنسية التي كانت تروج لفكرة استحالة اجتياز السد المكهرب .
ـ الفصل الثالث بعنوان (آثار و انعكاسات خطي موريس و شال على الثورة وبعد الإستقلال) تحدثنا أولا عن آثار وانعكاسات الخطين على الثورة بجوانبهما المختلفة العسكرية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، أما العنصر الثاني فتناولنا فيه آثار و انعكاسات الخطين بعد الاستقلال ، خاصة تنامي خطر الألغام و عمليات نزعها ، فضلا عن الضحايا و المعطوبين على الحدود الشرقية و الغربية ، إضافة إبراز تواصل خطر الألغام إلى يومنا هذا.
اعتمدنا في إنجاز موضوعنا مجموعة من المصادر و المراجع ، من بين المصادر مذكرات الطاهر سعيداني عنوان كتابه ( القاعدة الشرقية قلب الثورة النابض) أفادنا بفكرة إنشاء الخطين – موريس وشال – و مناطق تواجدهما ، و الظروف العامة لإنشائهما.
و كتاب الطاهر الزبيري : بعنوان ( مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخي "1929- 1962") ، أما المصادر الفرنسية فهناك كتاب ( مذكرات الأمل ) لشارل ديغول الذي تكلم فيه عن حربه في الجزائر واستراتيجياته العسكرية و اعترافه بصمود الثوار امام الآلة العسكرية الفرنسية ، كما اعتمدنا كتاب ( LAlgérie en guerre )للمجاهد محمد تقية الذي خصص جزءا لابأس به لهذا الموضوع .
أما المراجع التي اعتمدنها لمعالجة هذا الموضوع فكثيرة منها : كتاب جمال قندل ( خط موريس و شال و تأثيرهما على الثورة التحريرية(1957-1962) ، يوسف مناصرية (الأسلاك الشائكة و حقول الألغام) ، أفادتنا هذه المراجع في تصويب الخطأ المنتشر الذي يخلط بين خطي موريس و شال ، إذ أنه في الغالب يذكر أن خط موريس على مستوى الحدود الشرقية و خط شال على مستوى الحدود الغربية و هذا الخلط موجود حتى لدى طلاب الجامعات في قسم التاريخ.
و كأي باحثين في الحقل التاريخي واجهتنا عدة صعوبات و عراقيل في إعدادنا لهذا الموضوع منها :
- ندرة المصادر و المراجع المتخصصة التي تتحدث عن الموضوع باستثناء مرجعين أو ثلاث ، وخاصة في مكتبات المنطقة .
- ضيق الوقت الذي حال دون إنجاز مذكرة أكاديمية بكل ما تشمله من مقاييس علمية .
-استحالة الوصول إلى الوثائق و المخطوطات الخاصة بالموضوع ، فمعظمها متواجد في الأرشيف الفرنسي الخاص بالثورة الجزائرية (1954–1962)المحفوظ بقصر فانسان باريس.
من باب الانصاف و تثمين جهود من سبقونا في هذا المجال ، نشير أن هناك دراسات اشارت سواء من قريب أو بعيد إلى موضوع الاسلاك الشائكة كان من أهمها ما قام به جمال قندل في رسالة ماجستير بعنوان (خط موريس بين الانتصار و الانكسار) للموسم الدراسي 1992 - 1993 .
كلنا امل أن يساهم عملنا هذا في اجلاء الصورة عن حقيقة الآلة الجهنمية الفرنسية التي سلطت على الثورة التحريرية من خلال اسلاك الموت التي لا تزال تحصد أرواح الجزائريين إلى اليوم ، و أن نكون قد ساهمنا ـ ولو بقسط بسيط ـ في اثراء المكتبة التاريخية .