الخلاصة:
العلاقات بين الجزائر و الإمبراطورية الإسبانية خلال القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، يكتسي أهمية بالغة، لما كان له من إنعكاسات على الطرفين سواء الامبراطورية الاسبانية حامية المسيحية أو إيالة الجزائر العثمانية التي أصبح لها مكانتها في حوض البحر المتوسط، و وقفت في وجه المد الصليبي في المنطقة.
و قد توصّلنا في نهايـة هذه الدراسة إلى جملة من الاستناجات نلخصها في الجزئيات التالية :
- إن اسبانيا تحوّلت من ممالك متناحرة وحّدها الهدف الديني، و الزواج السياسي بين فرديناند و إيزابيلا، لتظهر كدولة موحدة في مطلع القرن ( 10هـ / 16 م ) في الحوض الغربي للمتوسط، ثم إلى امبراطورية تقود العالم المسيحي الغربي بعد إعتلاء شارل الخامس للعرش.
- استطاعت اسبانيا أن تقضي على مشاكلها الداخلية المتمثلة في تدهور اقتصادها بسبب هجرة المسلمين الأندلسيين - بتطبيقها لسياسة المجال الحيوي- و اكتساحها للعالم الجديد و ما درّهُ عليها من أرباح، و كذلك سيطرتها على الموانئ المغربية التي كانت تعتبر عصب التجارة بين بلاد السودان و أوربا، و انتقل بذلك الصراع الإسلامي المسيحي إلى المغرب الإسلامي عموما و المغرب الأوسط تحديدا.
- منذ سقوط غرناطة 1492م رغب الاسبان في وضع حد نهائي لنشاط مسلمي الأندلس المطرودين، و منع بلدان المغرب الإسلامي من تقديم يد العون و المساعدة لهم.
- إن الأسباب التي دفعت الاسبان إلى احتلال سواحل المغرب الإسلامي، لم تكن دوافع دينية بحتة، فالقادة الاسبان لم يهملوا الجوانب الأخرى العسكرية و الاستراتيجية و حتى الاقتصادية في عملهم و دليل ذلك سيطرتهم على أهم الموانئ التي كانت تعبر منها البضائع الإفريقية.
- إن طبيعة الإحتلال الإسباني للمدن الجزائرية، تُظهِرُ أنه احتلال خُطِّط له ونُفِّذ و استمر ثلاثة قرون كاملة في وهران والمرسى الكبير، و كان يهدف أساسا إلى الإستيطان من خلال تهجير آلاف العائلات الإسبانية للإستقرار في السواحل المغاربية.
- كانت الأوضاع السائدة بالمغرب الإسلامي عموما، و المغرب الأوسط تحديدا، و التي اتّسمت بالفوضى السياسية، التَّفكُك، و التَّجزؤ، إضافة للصِّراعات الداخلية، عاملا مُشجِّعا على الوقوع فريسة للاحتلال الاسباني.
- كان لوجود بعض القبائل الموالية للإسبان و المُمَوّلة لهم في مراكزهم المُحصّنة، دور في تثبيت الاحتلال في هذه المناطق، من ذلك قبائل بني عامر في الغرب الجزائري، كما كان للصراع العثماني المغربي دور في استجلاب الإسبان.
- كان لظهور الإخوة بربروسا و جهادهم في البحر المتوسط بمجهود فردي، الفضل الكبير في ضم الجزائر كإيالة تابعة للخلافة العثمانية، و هذا بطلب من سكان الجزائر أنفسهم خوفا من الوقوع كفريسة في أيدي الاحتلال الاسباني، وليس كما تحاول المصادر الأجنبية وصفهم كغزاة.
- إن ظهور الدولة الجزائرية كقوة فتية متحالفة مع الخلافة العثمانية قد جعل منها قلعة إسلامية حصينة في الحوض الغربي للبحر المتوسط، و هذا ما جعل الامبراطورية الاسبانية و من ورائها الأمم المسيحية تدرك خطورة ذلك على مستقبل الصراع الإسلامي– المسيحي في منطقة البحر المتوسط، و بالتالي تكثّف من حملاتها للقضاء عليها.
- إذا كانت الفترة ما قبل 1518م قد شهدت مدّا اسبانيا من خلال احتلال أغلب السواحل الجزائرية، فإنه و بظهور الدولة الجزائرية الحديثة قد تغيّرت طبيعة العلاقات الثنائية في الفترة ( 1519 – 1558م )، و غلب عليها طابع العداء المستمر و المواجهة بسبب إخضاع الاسبان أغلب السواحل الجزائرية منذ العام 911 هـ / 1505م و أخذ الصراع منحى تصاعدي آخر بين الإيالة الجزائرية التي صارت تابعة رسميا للباب العالي و بين الامبراطورية الاسبانية التي سعت لتثبيت نفسها في المنطقة.
- سعى خير الدين رفقة الجزائريين بعد استعادته مدينة الجزائر، و قضائه على فتنة ابن القاضي إلى استعادة الثغور من أيدي الأسبان، و كانت البداية بقلعة البنيون المواجهة للمدينة و ذلك سنة 1529م، كما قام بتشييد ميناء مهم للجزائر أصبح مصدر رعب للدول الأوربية، اسبانيا خاصة.
- لم تتوقف الحملات الإسبانية على السواحل الجزائرية بعد إنضمام الجزائر رسميا للباب العالي، بل إزدادت شدتها، و هذا في إطار صراع اسبانيا مع الخلافة العثمانية، و كانت أول هذه الحملات على مدينة الجزائر، حملة هيغو دي مونكاد سنة 1519م التي منيت بالفشل ثم حملة 1531 م، حين أراد أندري دوريا التخلص من مخاطر البحرية الجزائرية الناشئة في المتوسط، و رغم ما أحدثته الحملة من دمار في المدينة، إلا أن الفشل أيضا كان مصيرها ثم حملة ( شارلكان ) سنة 1541 م، و هي التي اعتبرت تحالفا أوربيا بقيادة اسبانيا كان الهدف من ورائه القضاء على الدولة الجزائرية الحديثة، و هو ما لم يحدث بل بالعكس كانت نتائجه المحلية، الإقليمية و الدولية بعكس ما أراد شارلكان، حيث كان فشل الاسبان و كان صمود مدينة الجزائر عاملا معززا لمكانة الإيالة الجزائرية في البحر المتوسط.
- كان من أبرز نتائج فشل هذه الحملات المتتالية تعالي أصوات الأندلسيين واستغاثتهم بخير الدين بعد أن أصبح سيد الحوض الغربي للبحر المتوسط و المهدد الأول للقوة البحرية الإسبانية، كما استنجد السلطان العثماني به و عينه كقائد للبحرية و استخلف حسن آغا على الجزائر.
- تطور دور الجزائر في البحر المتوسط، و أصبحت بفضل أسطولها قوة بحرية لها كلمتها فتدخلت في الصراع العثماني الاسباني على تونس سنوات 1534 – 1535م، حيث كانت تونس و نظرا لموقعها الاستراتيجي، محل صراع عنيف بين الدولة العثمانية و اسبانيا طيلة القرن السادس عشر الميلادي، و كانت تعيش اضطرابات داخلية سببها الصراع على السلطة، و بما أن الجزائر دون تونس لا تمثل شيء، استغل خير الدين صراع الاخوة وقام بضم تونس للخلافة سنة 1534م، ما دفع شارلكان لتجهيز حملة ضخمة و السيطرة عليها سنة 1535م، كما تدخّلت الجزائر في الصراع على طرابلس و ساهمت في ضمِّها للخلافة سنة 1551م.
- شهدت العلاقات الاسبانية الجزائرية مظهرا آخر تمثل في المفاوضات في الفترة ما بين ( 1538 – 1541م ) و هي المفاوضات التي ذكرتها المصادر الأوربية باستمرار، رغم أن المصادر الإسلامية لم تشر إليها، ما بين شارلكان و خير الدين من جهة و ما بين حاكم وهران الكونت دالكوديت و حسن آغا خليفة خير الدين من جهة ثانية، و قد كان مصير هذه المفاوضات في النهاية الفشل، كون أن الجانب الاسباني تبنَّى جانب المناورة السياسية و الخديعة من أجل الوقيعة بخير الدين فحسب، و دَفْعِهِ إلى قطع صلته بالسلطان العثماني للقضاء على التحالف العثماني الجزائري و الانفراد بالجزائر.
- رغم فشل الاسبان في أغلب الحملات السابقة على الجزائر، إلا أن احتفاظهم بوهران في الغرب الجزائري دفعهم مجددا لمد نفوذهم و توسعهم في الجزائر فكانت حملة الكاردينال دالكوديت على مستغانم و مقتله في مزغران سنة 1558م، و هي الهزيمة الأقسى التي تعرّض لها الأسبان في الغرب الجزائري و منذ ذلك الحين لم يُفكِّروا في توسيع نفوذهم في الجزائر و اقتنعوا بضرورة الحفاظ على وهران و المرسى الكبير اللذين ظلَّت محاولات استرجاعهما من الجزائريين تتكرر من حين لآخر.
- خلال النصف الثاني للقرن السادس عشر الميلادي تطور دور الجزائر في البحر المتوسط، و أصبحت تساهم في الصراع العثماني – الإسباني بشكل واضح و فعّال من خلال مشاركة الأسطول الجزائري في أغلب معارك الخلافة العثمانية ضد اسبانيا، في معركة جربة البحرية 1560م ، و في حصار مالطة 1565م، و في معركة ليبانتو 1571م، و كذا في ضم تونس النهائي سنة 1574م ، و مساعدة ثورة الموريسكـيـين ( 1568 – 1570م ).
- أخفقت الصليبية الإسبانية في مد سيطرتها على الجزائر تونس و طرابلس وخسرت إسبانيا كل المناطق التي احتلتها، ولم يبق لها نهاية القرن السادس عشر سوى وهران والمرسى الكبير.
- إن العلاقات بين الجزائر واسبانيا غلب عليها طابع الصراع المستمر، وقد وقفت الجزائر في وجه الإستعمار الإسباني الذي كان يرمي إلى ضم كل الشمال الإفريقي والسيطرة على كامل الحوض المتوسط و أفشلت بذلك المشروع الاسباني.
- إن العلاقات بين الجزائر وإسبانيا هي جزء من العلاقات بين الإسلام والنصرانية في الفترة الحديثة، أوهي صورة من صور الحرب الصليبية وامتداد لها، بقيادة الأمبراطورية العثمانية حامية الاسلام، والإمبراطورية الإسبانية المتحالفة مع الكنيسة الكاثوليكية.
- لعبت الجزائر دورا مهما، جعل بعض المؤرخين الأوربيين يعترفون به، وكانت قاعدة رئيسية للدولة العثمانية، و للعالم الإسلامي في الحوض الغربي من المتوسط .
- كان التعاون الجزائري العثماني هو السِّمة البارزة خلال القرن السادس عشر و حتى بعده و هو ما أثّر حتما في طبيعة العلاقات الثنائية بين الجزائر و اسبانيا.
في الأخير يجب القول بأننا لم نصل بالموضوع إلى غايته، و هيهات لمثل هاته الدراسة أن تفي بذلك، و لكنها محاولة متواضعة تشق الطريق لدراسات أشمل و أعمق فإن وُفِّقنَا إلى ما قَصدنا إليه فذلك حَسبُنا و قَصدُنا، و إن أَخفَقنا فَجزاؤنا أَنَّا اجتهدنَا و الله الموفق.