الخلاصة:
تعتبر مذكرات أو مراسلات الشريف حسين ـ مكماهون ذات أهمية سياسية و تاريخية كبيرة في تحديد معالم تاريخ العرب المعاصر . إلا أننا لا نملك من هذه المراسلات الا ما نقل عن الشريف حسين ، أو ما جاد به الأرشيف البريطاني و هو مثار جدل كبير و انتقاص للحقائق ، يرمي بضلاله على ما تبع هذه الثورة من أحداث صنعت و تصنع تاريخ المنطقة العربية و الامة العربية معا.
كانت الدولة العثمانية تحرص حرصا شديدا على المنطقة العربية ، و كان حرصها أشد على المناطق الشريفة منها و المقدسة حرمتها. فكان أمراء مكة و المدينة ، على مر التاريخ لهم استقلالية خاصة بهم ، يديرون شؤون البلاد بطريقة لا مركزية . كانت هناك إمارة عثمانية في الحجاز ، في البصرة و في اليمن لكن انجلترا كانت موجودة في اليمن الجنوبي في عدن و كذلك في منطقة الخليج "امارات تحت الوصاية" وهي إمارات الخليج و آخرها كانت الكويت .
كان ذلك كله يعني عدم قدرة الامبراطورية العثمانية على احكام قبضتها على المنطقة التي كانت تشهد عنفا و حروبا كثيرة ، و في نفس الوقت كان هناك دور كبير للبريطانيين في المنطقة .
مع دخول الامبراطورية العثمانية كطرف في الحرب العالمية الأولى ، اكتسبت الشام و فلسطين على الفور أهمية عسكرية خاصة للحكومة البريطانية بصفتهما الاقليمين اللذين يتعين أن تاتي منهما أية محاولة تركية – المانيا لغزو قناة السويس و مصر . كان الخطر المرتقب من تلك الجهة جديا ، لكن الأخطر كان هو المحاولة التركية الالمانية لتأليب العالم الاسلامي ضد اتفاق التفاهم (جهاد او حرب مقدسة) أو على الأقل التسبب في قلاقل واسعة النطاق . و لا بد من الإشارة هنا إلى مفارقة غريبة فرضتها السياسة الاستعمارية و هي أن فرنسا و بريطانيا كانتا في عام 1914م أكبر دولتين مسلمتين ، حيث كانت بريطانيا الدولة الاولى من حيث تعداد سكانها المسلمين (سكان المستعمرات) .
في هذا الإطار كانت طموحات حسين شريف مكة بسيطة و ثابتة ، فهو منذ عام 1908م لم يتزحزح عن رغبته في إمارة وراثية ذاتية الحكم في الحجاز ، محمية من أطماع العثمانيين الإدارية من جهة لكنها تتمتع من جهة اخرى بحضوة عثمانية خاصة عن بقية الامارات .
مع بداية الحرب العالمية الأولى ، كان كثير من المسؤولين في بريطانيا الذين كانوا على دراية بالاوضاع في العالم العربي ، يعتقدون أن هناك انقساما بين العرب و الأتراك ، و هو ما يمكن استغلاله . سرعان ما بدأ الساسة البريطانيون في مراجعة تحالفاتهم ، حيث قامت بريطانيا بالاتصال بالشريف حسين في محاولة لابعاد العرب عن الاشتراك في الحرب ضدها ، و أنه إذا قام العرب بمساعدتها فإنها تضمن عدم التدخل في جزيرة العرب ، و سوف تقدم كل المساعدة في وجه الاعتداء الخارجي و ربما يعتلي عربي سدة الحكم في مكة و المدينة .
من هنا بدأت سلسلة المراسلات بين مكماهون ممثلا لبريطانيا ، و الشريف حسين ممثلا للعرب . إن أهم ما في هذه المراسلات ، أن بريطانيا نجحت في أن ترسم في أذهان العرب دور الحليف ، و أن تنتزع من الشريف حسين اعترافا بمصالحها السياسية و الاقتصادية مع ترك تسوية المسائل الهامة الى ما بعد الحرب.
يقول بعض الساسة في الدول الكبرى : إنها الحرب ، وكل شيء يجوز من أجل كسب الحرب . وبهذا المنطق دخلت الحكومة البريطانية في الاتفاقيات المعروفة مع العرب وتعاقدت معهم من خلال مراسلات الحسين – مكماهون . وبهذا المنطق ذاته دخلت في اتفاقية أخرى مع الحكومة الفرنسية ، تناقض تماما روح الاتفاق مع العرب و هي اتفاقية سايكس- بيكو ، كما منحت وعدا لليهود و هو ما سمي بوعد بلفور، كل هذا و الحرب لم تضع أوزارها بعدُ ، أي أنها كانت تتم في السر بعيدا عن الحليف المباشر في المنطقة ، الشريف حسين ممثلا للمنطقة و للعرب .
إن المتمعن في مراسلات الشريف حسين- مكماهون، خاصة ردود مكماهون يدرك أن ما تمخض عن الثورة العربية من نتائج ( ستكون ذات تأثير سلبي و دائم على المنطقة) ، كان مخططا له أو على الأقل لم يدرج مصالح العرب في حسابات بريطانيا السياسية ، و هو أمر لا يتناقض مع علاقات و سياسات الغرب تاريخيا تجاه العرب و المسلمين.
نستخلص في الأخير ، أن الثورة العربية جاءت في وقت حرج للحلفاء ، فانشغل الأتراك وانزعج الألمان منها ، وخف الضغط عن جيوش الحلفاء وألحقت الهزائم بالجند الأتراك .
ساهمت الثورة العربية ، في غرس المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية العثمانية ، يعترف بذلك الكولونيل لورانس في كتابه "اعمدة الحكمة السبعة " بدور الثورة العربية ، بقوله :" لقد كنت أؤمن بالحركة العربية إيمانا عميقا وكنت واثقا قبل أن أحضر إلى الحجاز أنها هي الفكرة التي ستمزق تركيا شر ممزق ".
انخدع العرب بالوعود البريطانية المكماهونية ، وتحطمت آمال الحرية والخلافة على صخرة المؤامرات الإنجليزية والفرنسية والروسية من خلال اتفاقية " سايكس بيكو " 1916م .
ضربت بريطانيا بوعودها للعرب مرة أخرى عرض الحائط ، وأصدرت " وعد بلفور " الذي يضمن لليهود إقامة وطن قومي على حساب السكان الفلسطينيين .
إن الثورة العربية بامتداداتها من حيث الجغرافية ، و تشعباتها من حيث الاطراف التي شاركت فيها ، و تناقضاتها من حيث التحالفات و النتائج التي ترتبت عنها ، تفتح آفاقا كثيرة و متعددة للبحث في تاريخ الأمة ، و في شخصيتها ماضيا و حاضرا و مستقبلا.