الخلاصة:
لقد تبين من خلال الدساتير الثلاثة التي عرفتها الجزائر( 76 ، 89، 96 ،(وجود رغبة صريحة في تأسيس رقابة مالية لاحقة يختص بها مجلس للمحاسبة، و هو نفس هذا التصور الذي عملت على تكريسه مختلف النصوص التشريعية التي صدرت في هذا الإطار، المتعلقة بتنظيم هذا الجهاز و تحديد اختصاصاته.
لكن هذه النصوص، و إن جاءت متوافقة و متطابقة فيما بينها، فيما يتعلق بطبيعة الرقابة التي يمارسها مجلس المحاسبة، بجعلها رقابة لاحقة و تنصب على الأموال العمومية، فهي ليست على نفس هذه الدرجة من التوافق في تحديد الطبيعة القانونية لهذا الجهاز و في ضبط اختصاصاته، فالقانون 80-05 الذي تم بموجبه تأسيس مجلس للمحاسبة، وضع هذا الجهاز تحت سلطة رئيس الجمهورية و منحه اختصاصات قضائية و إدارية، و عمل على توسيع مجال رقابته ، بحيث كانت رقابته تشمل أموال الدولة، و الحزب و المجموعات المحلية و المؤسسات الاشتراكية بجميع أنواعها ، لكن دوره ظل محدودا في تلك الفترة، و هذا لحداثة نشأته و عدم توفره على الوسائل المادية و البشرية الكافية لأداء نشاطه، كما أن طبيعة النظام السياسي الذي كان قائما آنذاك، لم تكن تسمح ببروز هذا النوع من الرقابة المالية. أما القانون رقم 90-32 الذي تم بموجبه إلغاء القانون السابق ذكره ، فقد جاء في مرحلة سياسية جد هامة من تاريخ البلاد، حيث انتقلت فيها من نظام سياسي أحادي إلى نظام تعددي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، و من ثم فإنه كان من الطبيعي جدا أن يتم إعطاء الاستقلالية لمجلس المحاسبة في نشاطه، ولكن هذا القانون و إن أقر ذلك فإنه عمل على تجريده من اختصاصاته القضائية و تضييق مجال رقابته، بحيث حصر وظيفته في مراقبة أموال الهيئات العمومية التي تخضع في تسييرها لقواعد القانون الإداري و المحاسبة العمومية، أي مراقبة أموال الدولة والجماعات الإقليمية و المرافق العمومية الإدارية، و قد أدى هذا الوضع إلى تقليص دور هذا الجهاز و الحد من فعالية الرقابة التي يمارسها. 154 بصدور الأمر رقم 95-20 ، أعاد المشرع النظر في كيفية تنظيم و تسيير مجلس المحاسبة، و في المركز القانوني لأعضائه، حيث أصبح هذا الجهاز يكتسي الطبيعة القضائية وأعضاؤه أصبحوا يتمتعون من جديد بصفة القضاة، و عمل هذا القانون على توسيع مجال رقابته، ليشمل جميع الهيئات التي تستعمل في نشاطها أموالا عمومية مهما كانت طبيعتها القانونية، و تم إنشاء غرف إقليمية تابعة لمجلس المحاسبة تختص بالرقابة على أموال الجماعات المحلية و الهيئات التابعة لها. و لقد كرس هذا القانون استقلالية مجلس المحاسبة، من حيث تنظيمه و تسييره و خول له ممارسة اختصاصات قضائية يتمتع فيها بسلطة توقيع الجزاءات بنفسه يظهر من خلالها كهيئة ذات طبيعة قضائية إدارية، متخصصة في مراجعة حسابات المحاسبين العموميين و مراقبة الانضباط في مجال تسيير الميزانية و المالية. و تتجسد هذه الاختصاصات القضائية المخولة له، عن طريق إصدار قرارات تكتسي الصيغة التنفيذية قياسا على قرارات الجهات القضائية الإدارية، و هي قابلة للمراجعة و الاستئناف ، و يتم الطعن بالنقض فيها أمام مجلس الدولة. لكن وظيفة مجلس المحاسبة في ظل هذا القانون، لا تتوقف فقط على البحث عن الأخطاء و التجاوزات المالية ومعاقبة مرتكبيها، إنما يمارس كذلك رقابة إدارية تتمثل في تقييم نوعية التسيير المالي للهيئات الخاضعة لرقابته وفق مقاييس إقتصادية، و تقوم على عناصر أساسية، و هي الفعالية و النجاعة و الاقتصاد، و يوصي في نهاية تحرياته و تحقيقاته بالإجراءات التي يراها ملائمة لتحسين أدائها المالي. إضافة إلى وظيفته الرقابية، يظهر مجلس المحاسبة كهيئة استشارية في مجالات هامة جدا، تتعلق أساسا بمشاريع النصوص القانونية المتعلقة بالمالية العمومية، ويمكن له كذلك أن يقدم اقتراحاته و توصياته حول مختلف القضايا ذات الأهمية الوطنية التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمبادرة منه، أو بشأن تلك التي يتم إخطاره بها من طرف السلطات العمومية المؤهلة قانونا، و هذا كلما دعت الحاجة إلى ذلك. 155 إن مجمل هذه الاختصاصات المخولة له، تبدو من الناحية النظرية كافية بأن يمارس مجلس المحاسبة دورا هاما في حماية الأموال العمومية و المساهمة في تحسين تسييرها، ذلك أن الرقابة القضائية التي يتمتع بها، تمكنه من ترقية إجبارية تقديم الحسابات كقاعدة أساسية في نظام المحاسبة العمومية و تحقيق الشفافية المطلوبة في تسيير المال العام ، بينما يساهم من خلال رقابته الإدارية في تحسين النشاط المالي للهيئات الخاضعة لرقابته، و تحقيق الفعالية اللازمة في تسييرها المالي، ويشارك من خلال ما يتمتع به من صلاحيات استشارية في تحسين المنظومة التشريعية و التنظيمية و هو ما يجعل منه أداة اقتراح و قوة مبادرة فعالة، قادرة على التأثير و المساهمة في إنتاج القواعد القانونية في كل المسائل و القضايا المتعلقة بالمالية العمومية.